لماذا يستمر تراجع العرب بالذات والآخرون كلهم يتقدمون نحو المستقبل؟ أعتقد أن الإجابة أو الإجابات على هذا السؤال مرت بمراحل، وقد دخلت الآن في مرحلة الإجابة الملزمة والأخيرة. دلالات ذلك هي ما نراه من فورات البراكين الشعبية في عدة أقطار عربية وفي نفس التوقيت.
جيلي، أي جيل من عاصروا بدايات التعليم الابتدائي والمتوسط، تربى على إرجاع كل شيء إلى القضاء والقدر دون السؤال عن الأسباب، لأن العقل الجمعي آنذاك كان يعتقد أن ذلك من كمال الإيمان والاحتساب. بهذا المفهوم كان الناس يقولون إن كل إنسان ميسر لما خلق له، وبذلك يكون التقدم والتقهقر على مستوى الأمم والشعوب مجرد تسخير إلهي يجعل أمة تكد وتشقى وتبدع في أمور الدنيا لمصلحة أمة أخرى متفرغة تماماً للآخرة، على الأقل حسب الظاهر. ماهي إلا سنوات قليلة من التعليم والاطلاع اليسير على أحوال الآخرين حتى بدأ ذلك الجيل يتساءل عن افتقار هذا المنطق إلى مبدأ الأخذ بالأسباب واتخاذ المستطاع من أسباب القوة الذاتية، رغم أن التكليف الإلهي به ثابت في أصول التشريع بالنص في كتاب الله الكريم. صرنا في تلك المرحلة نقول لبعضنا (بعيداً عن رقابة الكبار) إن ذلك المنطق أعوج وهزيل ومتهافت لدرجة انعدام الشعور بالمسؤولية نحو المستقبل وأجياله ولا يخدم سوى المستفيدين منه. بعد تلك المرحلة القدرية الاستسلامية جاءت مرحلة إرجاع الأسباب إلى قوى الصهيونية والاستعمار والظلام التي جعلت كل همها بالتآمر على العرب وتعطيل مسيرتهم الظافرة المظفرة بكل الوسائل والحيل.
مع توالي الهزائم والانكسارات والحروب الداخلية والغزوات الخارجية وتفتيت الكيانات الجامعة إلى شظايا طائفية ومذهبية، ومع ما صاحب ذلك الانكفاء من نهوض أمم أخرى كانت أوضاعها أسوأ من أوضاع العرب وتقدمها إلى الأمام، هنا بدأت على استحياء محاولات إعادة النظر في الذات وفي التركيبة العقلية والسياسية التي تبرمج الواقع العربي وتتحكم فيه لمصالحها الآنية.
حالياً وخلال نصف السنة الأخيرة فقط، وصلت التساؤلات على امتداد الجغـــرافيا العـــربية إلى إعــادة النظر في الــتركيبات الســــياسية الإقلـــــيمية والتشكــيك في صلاحيتهـا وفي مدى مسؤولياتها المباشرة عن الشلل الحضاري والبؤس المعيشي وتقييد الحريات والعقول وتبديد الإمكانيات البشرية والمادية والتراجع إلى الخلف بدلاً من التقدم إلى الأمام مثل شعوب كانت خلفنا بمراحل فتجاوزتنا إلى الأمام بمراحل.
تردي الأحوال الشخصية والعامة وفقدان الكرامة الإنسانية والشعور بخزي المقارنة بالأمم الأخرى أوصلت العرب إلى مرحلة التساؤلات الكبرى عن الداخل نفسه، وإلى ما نراه من تفجر البراكين الداخلية. سوء الأحوال بالمطلق المادي والمعنوي أوصل الأمور إلى موقف بائس ومتناقض مع كل بديهيات الانتماء الديني والوطني والقومي حتى أصبح الحرام حلالاً والاستعانة بالمتجبر الأجنبي المتربص على المتجبر الداخلي الطاغية من ضمن الأجندات المقبولة للبحث عن الضوء في آخر النفق.
قبل سنوات قليلة استعان آيات الله الشيعة وشيوخ العشائر السنية في العراق بالتماس الخلاص من الطاغوت الداخلي الأصغر عند الطاغوت الخارجي الأكبر. اليوم يستعين العربي المسلم السني الملتزم مصطفى عبدالجليل في بنغازي بالوحش الأطلسي الفتاك للتخلص من الوحش الداخلي المسعور. عندما تصل الأمور إلى درجة عجز الإرادات الشعبية كلها عن التخلص من عصاباتها الداخلية تقوم بفتح الأبواب للصوص الخارج، وذلك منتهى الانحطاط والعجز والتراجع الحضاري.
هل يفهم أحد منكم إلى أين تتجه الأمور؟ وهل ثمة ضوء حقيقي في آخر النفق؟ أم أنه الإنتقال من نفق مظلم إلى نفق آخر حالك الظلام؟