قبل زمن طويل، حدثني زميل دراسة ليبي يعيش في الولايات المتحدة عن حكايته مع ثورة القذافي في عام 1969م، وكيف أنه كان واحداً من الذين هتفوا بالقرب من منزل الملك الراحل إدريس السنوسي - رحمه الله -، وهم يردّدون» إبليس ولا إدريس». يأخذ هذا الزميل نفساً عميقاً، ثم يضيف - وهو الذي يعيش بالمنفى شريداً فقيراً -»: لقد استجاب الله دعاءنا ... فها هو إبليس قد حكمنا وفعل بنا الأفاعيل.. يا رب - هذه المرة - إدريس ولا إبليس!»، ثم يضحك ضحكته المجلجلة التي تشبه البكاء، فقد مات والده ووالدته وهو لم يرهما. لا أدري أين هو زميلي الآن، فقد يكون ما زال حيث هو، أو لعله عاد لقريته الوادعة بليبيا بعد تحريرها قبل أيام.
كنا نعتقد أننا قد شاهدنا كل صنوف الجنون من العقيد خلال العقود الماضية، ولكننا اكتشفنا - أثناء الثورة عليه - أنّ كل ما رأيناه في السابق لم يكن شيئاً مذكوراً، فقد أبدع في ابتكار العبارات التي سيدخل بها التاريخ حتماً، فمن وصف أبناء شعبه بالفئران والصراصير، مروراً بشتمهم بعبارات نعاقب أطفالنا عليها، وليس انتهاءً بالهستيريا السلوكية وما يتبعها من لوازم ومحسّنات.
يعتقد بعض الناس أنّ الطغاة هم من الشجعان الذين لا يستطيعون كبح جماح شجاعتهم، ولذا يكون لهم ضحايا كثيرة أثناء حكمهم. ولكن الواقع يقول إنّ الطاغية هو جبان يغطّي هذا الجبن بشجاعة مزيّفة ضد المستضعفين من أبناء شعبه، ولذا نجد معظم ضحاياهم من أهل الفكر المسالمين، والنساء والأطفال. كان الناس يتوقّعون من رجل دموي مثل صدام حسين - نكل بأبناء شعبه وأحرقهم بالأسيد، وترك كثيراً منهم أسيري الإعاقة - أن يقاتل حتى النهاية وبندقيته بيده، أو يخرج من هذه الدنيا بيده لا بيد العدو، ولكنه فاجأنا بالذلّة والمسكنة والجُبن الذي كان عليه حينما تم القبض عليه بطريقة مهينة على يد ألد أعدائه. عاش صدام بعد ذلك ردحاً من الزمن، وهو يتلقى الإهانات والاعتداءات البدنية والنفسية من الناقمين عليه من أبناء شعبه من جهة، ومن مراهقي جيش الاحتلال من جهة أخرى، ثم تم إعدامه بعد أن تم إعدام كلّ تاريخه بحسنه وسيّئه.
ها هو التاريخ يعيد نفسه مع أشباه صدام، فقد رأينا العقيد وهو ينادي الملايين أن يخرجوا لصد الأعداء، وهو قابع في مكان مجهول تحيطه الحراسات من كل جهة، ولا ندري لماذا لم يخرج هو للقتال وصد هؤلاء الأعداء، أو على الأقل لماذا لم يخرج أحد أبنائه لفعل ذلك؟. إنهم الطغاة الجبناء المتلوّنين الذين يتجبّرون على الضعيف، ويركعون أمام القوي على عكس الناموس البشري. كان من المناسب أن يقول له أحد أتباعه قبل السقوط الأخير: «ابك مثل الجبناء على ملك لم تحافظ عليه مثل الرجال»، ولكن الرجل من جليسه على أي حال. من يصدق أنّ الطاؤوس المتكبّر الذي لم يسلم من أذاه أحد، بما في ذلك كثير من زعماء العالم المحترمين، يقبع ذليلاً شريداً في مكان مجهول يحفُّه الرعب من كل جانب، ويحسب كلّ صيحة هي نهايته المحتومة؟!. ألم يكن هو الذي دعم كلّ حركات التحرُّر حول العالم على حساب شعبه، فما باله اليوم عاجزاً عن تحرير نفسه؟!، وأين شجاعة ابنه سيف الإسلام، والذي يبدو أنه أخذ نصيباً من كل شيء إلاّ اسمه؟!. ألم يكن حريّاً بسيف وأبيه أن يستلهما سيرة ذلك «الشيخ الخليجي الشجاع» سليل المجد، الذي واجه العدوّ كما يفعل الرجال، خصوصاً وأنهما دائماً ما يتهكّمان على أبناء الخليج، أم أنها عصية عليهم؟ ... «وللحديث بقية».
فاصلة: «جورج قرداحي» إعلامي لم يكن يعرفه أحد، وقد أشهرته الفضائيات المحسوبة علينا قبل سنوات قليلة فقط. صدّق أو لا تصدّق أنه الآن يعلن مواقفه السياسية المناقضة لمواقفنا، والداعمة لأعدائنا من خلال وسائل إعلامنا! .. إلى متى ونحن الجدار القصير الذي لا يحسب حسابه حتى نكرات الإعلام؟!.
amfarraj@hotmail.com