العقيد معمر القذافي في الورطة التي جناها لنفسه اليوم يبحث عن جحر يلجأ إليه، ولم يعد يكترث بالمصير الذي حلَّ بأبنائه وأعوانه، لأنَّ الكيان الهش الذي تصوره صرحاً عظيماً كان قائماً على وجوده هو وسينتهي برحيله.
لم يعد القذافي بعد عميداً للحكام العرب ولا ملكاً لملوك أفريقيا مثلما كان يتباهى، ولا أخاً حتى لشعبه بعد كل هذه الدماء التي لم ترو عطشه للسلطة، والملايين الذين كان يدعوهم للزحف على معارضيه زحفوا عليه من كل صوب وسيطروا على باب العزيزية ليصبح كالجرذان المسكينة التي اختارها صفة للثوار.
كان للأخ العقيد نظام وكيان ومستشارون ومحبون، وكتاب أخضر أراده وسيلة ليقدم نفسه مفكراً أكثر منه مفتاحاً لإسعاد شعبه، لكن جميع أركان حكمه كانت تدور حوله، ولماذا لا يستمر حكمه 42 عاماً عندما يخدم الفرد مصالح جمع ليسوا في ليبيا بل في هذا البلد وذاك.
يروى أنه عندما طرح مدير الشركة الأمريكية النفطية أرمند هامر في عام 1962م على ملك ليبيا السابق تخفيض أسعار النفط، بحجة أن الغرب يريد إنفاق ما تخفضه ليبيا من السعر الأساسي لمساعدة أفريقيا للتنمية، رد عليه السنوسي بالقول إن ليبيا تحتاج إلى التنمية أكثر من غيرها، ثم الاستعمار الإيطالي ألحق بنا أضراراً نريد تعويضها، ولو قررنا المساعدة نهتم أولاً بإخواننا العرب الذين يقفون معنا في كل شيء، ثم من الذي جنى كل المصائب هذه لأفريقيا واستعبد شعبها؟ والأهم من ذلك لنا برلمان يقرر مثلما لكم مجلس شيوخ.
وكانت الفقرة الأخيرة من رد الملك قد أثارت مشاعر الغضب لدى المبعوث الأمريكي. ونقل الدكتور علي الساحلي رئيس البلاط الليبي آنذاك أنه سمع هامر يردد خلال خروجه من القصر الملكي: (هذا البلد لا يحتاج إلى برلمان أو مجلس شيوخ، نحتاج إلى شخص واحد لنتفاهم معه). ويضيف المسؤول الليبي السابق أنه أدرك حينها أن الأمريكيين يبيتون لإنقلاب ضدنا.
حتى لو كانت الرواية غير صحيحة ولم يقُد القذافي الإنقلاب في عام 1969م بخطة أمريكية فإن ليبيا كان يحكمها خلال هذه السنين العجاف فرد يجب على الآخرين التفاهم معه، لم يملك البلد برلماناً حقيقياً، ولم يكترث قائده بمواقف شعبه، وتضم قائمة المحظورات فيه كل ما يمكن أن تخرج منه بنات فكرة جماعية مثل الاستفتاء والأحزاب والصحافة الحرة والمشاركة في القرار.
ومن هنا جاء تنازله أمام المشروع النووي عندما وضع مفاتيح منشآته كلها بيد الولايات المتحدة لتحمل معها ما تشاء ومعه مصادر الطاقة والنفط الذي رفض سلفه السنوسي بيعه بخساً على الأمريكان، ثم 2.7 مليار دولار غرامة لحادث لوكربي.
لكن لكل الحكام الذين تمتد جذورهم إلى الخارج من الهواء وليس لهم جذور في أرضهم وامتداد بين شعوبهم نهاية واحدة بعد خدماتهم الجليلة للغرب والطامعين بنهب ثروات المنطقة.
ولا نلوم القذافي عندما احتج على شنق صدام بعد سحبه من جحره ليحذر الحكام العرب خلال اجتماع للجامعة العربية (هذا حاكم شنقوه، وسيأتي دوركم جميعاً، لكن من يتابعنا من خارج الصالة يدرك ذلك أكثر من الحضارين هنا).
القذافي حتى مع رحيله يقدم خدمة كبرى للغرب من خلال فتح المجال أمام النيتو للتدخل عسكرياً في ليبيا ليتبعه لاحقاً حضور دبلوماسي لتسهيل وجود الحلف في المنطقة واستفزاز شعوبها المسالمة.
الزعيم الليبي الذي تساقط أعوانه كالأوراق من على شجرة حكمه الخضراء وانضم معظمهم إلى الثائرين كان يظن بأن حكمه سيدوم إلى أبد الدهر، ومن هنا جاء موقفه الساخر من سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك حينما قال: (الغرب بات يعرف بأن بعض الأنظمة انتهى تاريخها فلم يعارض إسقاطها بل تعاون لإسقاطها).
واليوم يتابع العالم مسرحية يلعب القذافي دورها الأول حيث تعود على جلب الأنظار إليه من خلال سلوكه الغريب، مثل تفسيره للديموقراطية التي قال إنها يعني (ديموا الكراسي)! وقوله إن الرئيس الأمريكي اسمه الحقيقي (أبو عمامة)! وليس أوباما. لكن الجميع يعرف نهاية هذه المسرحية لأنها حقيقة تنطبق على جميع الحكام الذين يسلكون السبيل نفسه، فإما في قبضة المعارضين وإما قتيل في إحدى الأزقة المتواضعة.
* باحث إيراني في شؤون الشرق الأوسط