ازدهرت في أيامنا هذه البرامج الدينية والوعظية، حتى أن البعض شبهها بتجارة الدين، والمقصود هنا ليس تسويق الدين، بل الاتجار به بكافة الأشكال، وعلى جميع المستويات من برامج الوعظ المتكرر، إلى ما يسمى بالرقية الشرعية والعلاج الشرعي.
وقد ساعد الانتشار الكبير للقنوات الفضائية، والإذاعية، وازدهار التسويق الإعلاني المرئي والمسموع، والمبالغ المجزية التي تدفعها هذه البرامج لضيوفها على انتشار هذه البرامج انتشار النار في الهشيم حتى أصبح لها وجوه ذات نجومية تشبه نجومية الشخصيات الإعلامية الأخرى.
وذات مرة، وبدون أية مبالغة، وجدت محدثاً واحداً في أربع قنوات في الوقت ذاته، وفي أربعة برامج مختلفة، وأربعة أزياء متلونة حسب بلدان القنوات الذي يقدم فيها نصائحه المتفاوتة. ولو أردنا إجمال المواضيع النمطية التي تدور حولها جميع الأحاديث التي تملأ قنواتنا على مختلف مشاربها لألفيناها تدور حول بضعة مواضيع محددة يتم تكرارها من قبل شخصيات مختلفة، كل حسب قدرته وأسلوبه من أهمها.
الحديث عن أن الفرد المسلم يجب أن يكون مثالياً طوباوياً في عبادته مسلكه وكأنه منزه عن الخطأ. وبعض المتحدثين، ولا أقول الوعاظ، عندما يحدّث بعض البسطاء على هذه الشاكلة فهو يوحي لهم بشكل غير مباشر أنه هو ذاك الشخص الذي يجب أن يقتدى به حتى ولو صرح بأن القدوة هي شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشخاص الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، فهو هنا قدوتهم المعاصرة التي يجب أن تتبع. و لا ضير في ذلك لو أن تصرفات هذا الشخص الفعلية خارج الأستديو، في مسلكه الشخصي والاجتماعي كانت كذلك فهي المحك الحقيقي لما يعظ به، وليست الأقوال التي يرددها فقط. وقديماً قيل إن الاختبار الحقيقي للرجل هو في أمرين: جيبه، وعورته. و الجميع ليسوا الشيخين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله في وعظهما ومسلكهما.
الأمر الثاني هو إعادة رواية السير، و القصص، والحكايات الإسلامية، التي أصبحت من كثرة تكرارها، معروفة للجميع، ولكن بأسلوب جديد، أسلوب يقوم فيه بعض المتحدثين بمسرحة القصص بإيقاعات صوتية متباينة، وإيماءات تعبيرية مدروسة تجعل المتحدث يبدو للمتلقي وكأنه بعث من عالم الصحابة والسلف فعلاً لا قولاً. وهنا يجد المراقب عوامل مشتركة في هذا الشأن بين المتحدث والحكواتي الذي عرف في التراث الاجتماعي العربي بقدرته التعبيرية الفذة في الإلقاء السردي المؤثر. وبدأ بعض المحدثين في الآونة الأخيرة يمزج الحديث بنوع من الإنشاد الغنائي (بدون موسيقى طبعاً) وذلك لإضفاء قوة تعبيرية على الحديث، قوة تشبه قوة الموسيقى التصويرية.
والموضوع الثالث الذي يدور حول تخويف بعض المحدثين للناس بشتى الطرق، تخويفهم من عذاب مهول ينتظرهم لأتفه المخالفات لبعض الأمور المتشابهة والمشتبهة من أمور الدين، وكأنما الدين الإسلامي القويم دين رعب وخوف وليس دين أخلاق، ومحبة وإحسان، واستقامة. ومن هنا جاءتنا عقلية الرهاب من الحرام، و عقلية الإسراف فيما هو حلال. وكأنما المسلم ليس محبا راغبا ومتدبرا، بل موجول خائف وإمعة. ويضاف لذلك تخويف الناس من مؤامرات متخيلة تحاك لهم، ومن انتشار سلوكيات جديدة ليست محرمة بالضرورة ولكنها مدخل لضياع الدين والأخلاق، والواعظ بالطبع يلعب دور الحارس لها، والمنافح عنها. والجانب الآخر لهذا الأسلوب يقول للفرد المتلقي إنه يجب ألا تفكر، وتقرر لذاتك حتى في أصغر الأمور وأتفهها، بل يجب عليك الرجوع لي (أنا المتحدث) لأني الوحيد من ينبهك لما لا تعرفه ويخفى عليك من عواقب الأمور. ولكن ذلك لا يمنعني أنا أن أتمتع، بل منتج حديث دونما خوف أو تردد. والمعروف أن التربية في العصور الإسلامية، متقدمة ومتأخرة اختلفت من عصر لعصر فهي في عصر الخلفاء الراشدين اختلفت عما هي عليه في العصر الأموي، وكذلك العصر العباسي أو العصر المملوكي، وهلم جرا. وللعلماء آراء مختلفة في كثير من الأمور.
الأمر الرابع التخويف من التغريب، وكأنما الشغل الشاغل للغرب هو التآمر على الدين الإسلامي. يكرر هذا الكلام في الوقت الذي نفتخر فيه بأن أعداداً كبيرة من الغربيين تدخل الإسلام عن اختيار ولا تتدخل الحكومات الغربية في ذلك، ولا تحاربهم، أو تمنعهم. و لا مانع من شتم العلمانية، والثقافة الغربية، والحديث عن انحطاط الغرب، لأن الغرب لا يحكم الدين في جميع الأمور، وهو لو فعل ذلك لهاجم الإسلام والمسلمين حقيقة، وهو يملك القوة والعدة لذلك، والعكس غير صحيح.
و للمعلومية، فنحن من نستورد بعض الأفكار من الغرب، كغيرنا من الشعوب، مع أن الغرب لا يبذل جهداً كبيراً في تصديرها، بل ويمكن القول إن الغرب، والثقافة الغربية، لا تدخل بلد دونما دعوة، أو سعي من السلطات فيها لذلك. فلا ضير أن نستخدم أفكاراً ومصطلحات في أحاديثنا هي في أصلها من إنتاج الغرب إذا ما كنا نحن من يوظفها، ولا ضير أن أطلق على نفسي مصطلح دكتور، أو بروفيسور، وأفتخر بها تزين اسمي، وهي في أصلها مصطلحات كنسية. ولكننا يحب أن نتهم الغرب في كل شيء: حقوق الإنسان، حرية المرأة، التعددية الفكرية، الحرية الفردية فجميعها مجرد أوجه مختلفة لمؤامرة غربية واحدة، كل ذلك رغم أن الإسلام سبق الحضارة الغربية في إحقاق كثير من هذه المفاهيم؛ فقد كان خير البرية يشتري العبيد ليعتقهم، وقد قال عمر -رضي الله- عنه قولته المعروفة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، وجاء في الكتاب المحكم: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، سورة الكهف، ونزل أيضاً: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} سورة الزمر. فحقوق الإنسان العالمية إنما هي جزء بسيط من حقوق الإنسان في الإسلام.
ويبقى الموضوع الأخير وهو قضايا المرأة المختلفة التي نقف حيالها موقف الحائر المتردد، فهي مصدر فتنة دائم، ومصدر بلاء مقيم، وكل ما يصدر منها أو حولها يثير الشبهة والغرائز، وننسى أنها كائنة بشرية مثلنا تماما لها الحقوق والواجبات ذاتها التي شرعها الدين لنا، لكننا نلجأ لتعسف التفسير، والأحادية لنحشرها في زاوية ضيقة من الشكوك والتربص. و قد قال الله جلَّ وعلا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} سورة البقرة، وهي آية تنطق بكل عبارات المساواة بين الجنسين. ولكننا نجملها دائماً في أحاديث التخويف والتهويل من الفتن والبدع وغير ذلك من العبارات التي لا مرجع لها. ولكن من يخوّف الناس من الفتنة ويحذرهم بقربها منهم قد لا يكون بالضرورة في حياته الخاصة مزواجاً ذواقاً، يسرف في كل ما هو حلال.
لا شك أن الناس تحتاج للتبصير في أمور دينها ودنياها، ولا شك أيضاً بأننا في حاجة لتوضيح أمور الدين للعامة، وفي حاجة لمشايخنا -حفظهم الله- لتنويرنا في أمور ديننا وبعض أمور دنيانا. ولكن الإسراف في الوعظ والتحديث على هذه الشاكلة، هو من قبيل الإسراف الذي نهانا الله والرسول عنه، ويأتي بأثر عكسي، ويجعل الناس يملون تكرار هذه البرامج ولا يتابعونها. كما أن إطلاق ألقاب واعظ، وشيخ، وداعية على كل من هب ودب يفرغها من معانيها الجليلة، ويقلل من هيبتهما. ولعل أسوأ ما في الموضوع هو اتخاذ هذه البرامج وسيلة للاتجار والانشهار، وقد عهد الكاتب فيما سبق، مثله مثل غيره من المواطنين، كثير من المشايخ، المشايخ الذين يرجون ما عند الله فقط، يرقون الناس، ويقرأون للمرضى وعليهم بدون مقابل، بل إن معظمهم يدفع قيمة الزعفران الذي يكتب به الرقى، والدهانات التي ينفث فيها القراءة، ويرفض بصرامة أخذ أي مقابل لذلك. علماً بأن بعض الفقهاء استهجن تعليم القرآن أو أمور الدين بمقابل، بل إن البعض منهم يرى عدم قبول شهادة من يعلم القرآن بالمال وقارنوه بمن يأكل الطعام في الطريق العام.
وكل عام والجميع بخير، أعاده الله علينا وعليكم دون فتن أو محن.
latifmohammed@hotmail.com