أكتب هذا المقال بعد أن عشت البارحة رحلة الأشخاص والأماكن والأحداث، غادرت أولاً عالم الأحياء إلى القبور..كان محطتي الأول مقبرة العود.. تذكّرت أبي - رحمه الله- الذي رحل عن هذه الدنيا منذ ما يقارب خمسة وعشرين عاماً، صدّقوني لم يغب مع مرور كل هذه الأعوام، هو حاضر بوصاياه التربوية الرائعة وسلوكه المجتمعي الفريد، بصوته الندي حين يتلو كتاب الله وهو يؤم المصلين في هذا الشهر الفضيل، بحبه للخير ومسابقته فيه، بثقافته الواسعة وقراءته الدائمة، بجمال ابتسامته وسكون جوارحه وثقته الكبيرة بالله عزَّ وجلَّ.. تذكّرت جدي.. جدتي.. صديق العمر الذي مات وهو في ريعان شبابه.. تفكّرت في أهل المقابر، أوقفني مشهد الأسياد والملوك كيف هي حالهم تحت الثرى? آه كم هي موحشة هذه القبور إذا كان زادنا من هذه الدنيا لا يبلغنا منازل السعداء في الجنة ولا ينوّر لنا مضاجعنا تحت الثرى لا سمح الله.. تذكّرت الأحياء أسودهم وأبيضهم وأحمرهم، مسلمهم وكتابيهم وكافرهم، قرأت خريطة الإنسان جنس الإنسان على هذه الأرض سريعاً وتساءلت عن مستقبلنا نحن الضعفاء في ظل الصراع الذي لا يعرف للرحمة مكاناً!
حضرت أسماء كان لها فضل علي بعد الله فذكرتها بخير ودعوة لها في ظهر الغيب وأنا واقف بين يدي أرحم الراحمين أتحرّى من بين الملايين ليلية القدر التي هي خير من ألف شهر.
قفزت إلى الذاكرة صور أناس وغاب الكثير ممن أخطؤوا في حقي بالفعل أو القول أو الكتابة فأعلنتها بين يدي القوي القادر المنتقم أنني قد عفوت عمّن ظلمني وسامحت من أخطأ في حقي.
قلّبت صفحات الأحداث، مرَّ بين عيني مشاهد ظلمي لذاتي فصغرت نفسي وشكرت الله عزَّ وجلَّ أن قبلني عبداً له وسألته سبحانه وتعالى أن يضفي علي ستراً لا ينكشف «فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليه» إنه على كل شيء قدير.
هكذا هي حكاية الكثير منّا في ليالي العشر الفاضلة التي طويت سريعاًَ وانتهت كلمح البصر أو هي أقرب، وهذه باختصار سيرة الإنسان المسلم في هذه الدنيا، يخطئ ولكن سرعان ما يقرع باب الرب معترفاً بذنبه وطالباً منه وحده المغفرة والتجاوز، ورمضان كان فرصة سانحة للعاقل اللبيب في مراجعة كشف حسابه مع الله، ثم مع نفسه وماله وبيته وكذا الناس.
لقد شاهدت مثل غيري جموع المسلمين في هذه البلاد المباركة وهم يتسابقون لحضور صلاة التراويح والقيام في ليالي هذا الشهر الفضيل، الشباب قبل الشيب، والصغار مع الكبار، والنساء خلف الرجال، وسرّني بصدق هذا المشهد الرائع الذي ينم عن عودة صادقة وأوبة خالصة لله ويبشر بخير، فضلاً عمّا في الحرمين الشريفين، وكل هؤلاء كان لهم في هذه الليالي الفاضلة حكايات وقصص.. أعادوا شريط الحياة سريعاً.. توقفوا مثلي، بل ربما أكثر مني عند تواريخ معينة وحضر معهم أشخاص سلباً أو إيجاباً بعد أن غابوا عنهم ما شاء الله من السنين وربما الأشهر وقد تكون مجرد أيام.. والسعيد منّا من خرج من هذه الدنيا مغفوراً له، وكان زاده للآخرة وافراً، ولباسه التقوى.
عوداً على بدء كما قلت لكم مع مطلع هذا الشهر المبارك كل عام وأنتم بخير أقول في هذا اليوم الذي نودع فيه هذه المناسبة الربانية الروحانية العظيمة كل عام وأنتم بخير، تقبّل الله منّا ومنكم صالح الأعمال، وأعاد علينا شهر رمضان ونحن بصحة وسلامة وأمن وأمان وسعة رزق وعطاء و»عيدكم مبارك» وإلى لقاء والسلام.