مرت أيام رمضان، لأنها أيام أنس وسرور، وعبادة متنوعة: بدنية ووجدانية: فالعين تُغضُّ النظر، والأذن تعفّ عن السماع لكل ما لا يتلاءم مع قدسية شهر رمضان، وما جاء في فضائله، وبالفرص المتاحة، واللسان يمسك عن اللغو في القول، ليشتغل بذكر الله، وقراءة القرآن، واليد يكثر نداها بالإنفاق صدقة وزكاة ومساعدة،
وغير هذا من الأعمال المتكاثرة؛ لأن النفوس تجود في هذا الشهر، والأحاسيس والعواطف تتجاذب، وترق وتستجيب معها القلوب، لأن فرص الخير في شهر رمضان كثيرة ومهيأة.
لأنه شهر كريم تضاعف فيه الحسنات، وتصفّد فيه الشياطين والمردة المثبطة عن الأعمال الحسنة، التي يحبها الله، وحث عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واهتم بها السلف الصالح من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم.
وتذكُّر ذلك مما يعين على الطاعات، إذ بعد رمضان يتحرك الإيمان في القلب، ليحصل الندم للمقصّرين في هذا الشهر، ونقول لهم: لا تقنطوا من رحمة الله، فإن بابه سبحانه مفتوح لينادي منادٍ يا باغي الخير أقدم، ويا باغي الشر أقصر، لأن رحمة الله قريب من المحسنين.
ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد حذر المقصرين في رمضان، بقوله وهو يصعد درجات المنبر ويردد كلمات معناها: خاب وخسر لثلاثة من البشر الذين أدركهم رمضان، ولم يغفر لهم بعدما خرج، ومن ذلك خيرات رمضان: بالمغفرة والقبول وتنهال في آخره؛ لأن العامل لا يوفى أجره إلا بعد انتهاء العمل.
هذا بالنسبة لمن ضيّع فرصة رمضان، باللهو والناس يتعبدون، فإنه لابد أن يكون أسفه بعد ما فاته الركب، فنحرك موطن الإحساس فيه، بأن أمامه فرصاً فيما بقي من رمضان، ليأخذ نصيباً من نفحات الشهر، إذا عمل بجدٍّ بعد الندم، إذ في صلاة العيد، والتكبير والدعاء والاستغفار، ومعايدة الإخوان والعفو والتسامح، عما كان قد عَلِقَ بالنفوس ونزغات الشيطان، مصلحة وفوائد أهمها تنقية القلوب، إذ في المصافحة والتسامح فضل عظيم.
يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان وتصافحا، تحاتت خطاياهما، كما يتحات ورق الشجر". وهذا في رمضان وغيره.
وهذا من فضل الله؛ لأن باب التوبة مفتوح في ساعات الليل والنهار.. والعيد من حسناته إزالة ما في النفوس من شحناء يحركها الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس والجن؛ لأن الطريق مفتوح لمن أراد التدارك، والسعي في الخير خير من التمادي في الباطل، وخير المسلمين إذا التقيا من يبدأ بالسلام، لأن من تواضع لله رفعه.
وفميا يتعلق بالعبادات البدنية بعد رمضان، فإن في شوال فُرصاً أولها بعد انتهاء العيد الذي لا صوم فيه، وإنما ذكروا دعاء وتواصل يحط الله بها الخطايا، فإن في الاهتمام بالصيام ستة أيام من شهر شوال: لا يشترط فيها التتابع: في أول الشهر أو في آخره أو في وسطه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر كله".. قال العلماء في هذا الحديث: الحسنة بعشر أمثالها، فصيام رمضان بعشرة أشهر، وستة أيام من شوال بستين يوماً، يعني شهرين ليصبح الصيام بفضل الله يعدل سنة كاملة، وهذا من كرم المولى سبحانه على عباده الصادقين المخلصين، حيث يضاعف لهم الأجر بإحسانه إليهم.
كما أن من العبادات بعد رمضان: كثرة الدعاء والاستغفار وذكر الله، لأن الدعاء فضله عظيم ولا يعذب الله قوماً يستغفرون كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال.
ومع الدعاء والاستغفار، الحرص على العبادة الليلية، صلاة التوابين: تصلى والناس نيام، في الثلث الأخير من الليل، لأن ذلك من أفضل العبادات: تصلي في غفلة الناس، لتكون ممن قال الله فيهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (16) سورة السجدة.
فقد كان واحدا من الصحابة في حلقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يستمعون ما ينفعهم ليطبقوه عملاً، ولا يتجرأ واحد منهم على المفاتحة بالسؤال: احتراماً وتهيّباً، ويفرحون بالوافد من البادية، إذا جاء ليسأل عن أمور دينه، وبإجابة الرسول يأخذون الفائدة، ليطبقوها ثم تنتقل بأمانة لمن بعدهم.
وكان في إحدى الجلسات رجل من الصحابة يستمع ولا يسأل، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستنطقاً: ألا تسأل فقال الرجل: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال النبي الكريم: أوّ غير ذلك؟. قال: لا. فقال له: أعنّي على نفسك بكثرة السجود". وهذا حكم عام لمن يريد هذه الدرجة العالية لمن أعانه الله ووفقه.
فهذه كلمة واعية جامعة، تصلح لأي شخص وبأي زمن، وهنا يحسن التنبيه إلى بعض ما تعنيه هذه الكلمة وما يتبعها من التزام.. لأن كثرة السجود تعني كثرة الصلاة نافلة، بعد الفريضة، وخضوعاً أمام الله. والنوافل في جوف الليل ليُبعد هذا العمل عن الرياء، وقد أخبر الهادي البشير عليه الصلاة والسلام: بأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وبالإكثار فيه من الدعاء، وقال: "فقمِنَ أن يستجاب لكم" أي قريب.
ومدح الله عباده بكثرة السجود، الذي يترك أثراً في الوجوه يعرفون به {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (29) سورة الفتح. والله قريب من عباده الداعين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (186) سورة البقرة، والسجود خضوع لله، وإظهار الندم والمسكنة، افتقاراً إليه سبحانه فيرحم الله هذا المذنب الذي جاء نادماً وخاضعاً لمولاه سبحانه، صادقاً مخلصاً، لعل الله يرحمه ويجيب دعوته، ويتجاوز عن زلته. وفق ما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن الساجد هو أقرب ما يكون إلى الله، بقلبه وحواسه وطهارته، كما جاء في الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).
وهذا ما يجب تطهيره: بالنية والإخلاص، مما يوجب بهذا الانكسار والتذلل بصدق وإخلاص الإجابة كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي... } (186) سورة البقرة. والعبد يجب أن يتقرب إلى ربه بخضوع وتذلل وعدم ارتكاب الحرام من مأكل وملبس وحقوق للآخرين أو ظلمهم، كما في حديث الأشعث الأغبر الذي يرفع يديه إلى السماء: "يا رب يا رب ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنى يستجاب له".
والمسرف على نفسه، يجب عليه أن يتحين أوقات الإجابة كالثلث الأخير من الليل، حين ينزل الرب إلى السماء الدنيا - نزولاً يليق بجلاله وعظمته، من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل - فيقول: "هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه". حتى يطلع الفجر وبابه مفتوح للسائلين رحمة منه لعباده.
ويأتي من الفرص بعد رمضان ليغتنمها: البداية: بصلاة العيد التي نهى رسول الله عن صوم يومها، لأنه يوم أكل وشرب، وتكبير وتمجيد لله ودعاء، وليس في الإسلام أعياد غير يوم الفطر وعيد الأضحى، وهما من الفرص بعد رمضان، فالأول تبدأ به أشهر الحج، وما في أيامه من خصائص، وخاصة شهر ذي الحجة من فضائل، إذْ عشر ذي الحجة التي أقسم الله بها فقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر الآيتان 1-2) وفي صيامها أجرٌ، ويقترن بهذه العشر يوم الحج الأكبر، حيث يتلاءم الحجاج من مشارق الأرض ومغاربها، في عرفات (يوم عرفة) الذي هو واحد من الأيام العشر.
يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- في تفسيره: تيسير الكريم الرحمن، في تفسير كلام المنان: فما رؤي الشيطان في يوم عرفة، الذي هو من الأيام العشر - التي جاءت في الآية الكريمة {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وقد أقسم بها لعظمها، فما رؤي الشيطان في يوم عرفة الذي هو الأيام العشر: أحقر ولا أدْمَر منه، في يوم عرفة لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله على عباده - ذلك أن عشر ذي الحجة، يقع كثير من أفعال الحج والعمرة فيها، وهذه أشياء معظمة، مستحقة أن يقسم الله بها. (ج2: ص622) مع الاشتغال بالدعاء والتلبية والاستغفار، وكل هذه عبادات، ويوم عرفة أجر صيامه عظيم، لمن لم يكن حاجاً، أما الحجاج فالإفطار لهم أفضل حتى يتقوّوا على طاعة الله في هذا اليوم الذي تتنزل، فيه رحمات الله وغفرانه على جميع الحجاج.
ثم يلي ذلك من الفرص، التي يحسن بالمسلم الراغب في الخير والإحسان، اغتنام ما في شهر الله المحرم من أجر حيث تبتدئ به السنة الهجرية.
وفيه يوم عاشوراء، الذي عظمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عندما وصل المدينة مهاجراً، ورأى اليهود يصومونه، ويقولون: هذا يوم نصر الله فيه موسى، وقومه، وأهلك الله فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه وصيام يوم قبله أو يوم بعده مخالفة لليهود، فالله قد وسع على عباده بكثرة فرص الخير طوال العام.