إنني أتذكر جيداً عندما ركضنا داخل الغابة، وكيف لعلع الرصاص، وتساقطت الأغصان المنكسرة.. وأتذكر أيضاً كيف شققنا طريقنا من خلال الأشجار المتشابكة، وحمى وطيس المعركة، وبدا وميض إطلاق النار يلمعُ من كل جوانب الغابة المظلمة!
يا الله.. كيف استطاع (سيدروف) ذلك الجندي الصغير من الفرقة الأولى أن يصل خط النار الذي كنا فيه، ولكنه وقع على الأرض فجأة وصار ينظر إلي في صمت، وفي عينيه ذعر شديد، ومن فمه ينساب خيط من الدم.. أوه.. أجل.. إني أتذكر كذلك هذا الجندي الضخم الذي وجدته مختبئاً بين الأغصان.. كان تُركياً بديناً.. ورغم ضآلة جسمي، فقد اندفعت نحوه، فصوّب إلي بندقيته وأطلق النار، وبضربة واحدة مني أسقطت البندقية من يده ثم أغمدت حربتي في مكان ما من جسمه.. فصرخ في فزع.. واستمر رجالنا يتقدمون ويطلقون النار ويصيحون صيحات الفوز، وكل الذي أتذكره الآن هو أني واصلت إطلاق الرصاص مرات عديدة حتى وصلت أرضاً مكشوفة.. ثم تعالت صيحات الانتصار، واندفع الجميع إلى الأمام، أقصد فرقتنا، أما أنا فبقيتُ حيث أنا الآن!.. لقد تلاشى كل شيء فجأة.. الصيحاتُ وأصوات الرصاص.. ولم أعد أسمع، ولا أرى سوى زرقة السماء التي اختفت هي الأخرى!
لم يسبق لي أن عانيت تجربة كهذه.. وها أنا أرقد على بطني فأرى أمامي رقعة صغيرة من الأرض يتخللها بعض أعشاب جافة، وأرى نملة تدب على عود، وبقية من عشب أخضر.. ذلك كان عالمي كله.. إنني لا أُبصر إلا بعينٍ واحدة، لأن عيني الأخرى مضغوطة بشيء صلب.. لابد أن هذا الشيء هو الغصن الذي يستريح عليه رأسي.. إنني أحس بانقباض فظيع.. وبودي لو أتحرك قليلاً، ولكني لا أدري لماذا لا أستطيع.. الوقت يمضي.. وإنني أسمع حولي صوت جرادة ورفيف نحلة.. هذا كل ما أسمعه.. وأخيراً حاولت أن أُخلص ذراعي اليمنى من تحت جسمي وأريح كلتا يدي على الأرض، وأن أجلس على ركبتي.. ولكن ألماً حاداً وفي سرعة البرق يخز بدني كله من ركبتي حتى صدري، ثم يرتفع إلى رأسي، وأسقط مرة أخرى، وأعود إلى عالم الظلام والانقباض!
إنني مستيقظ.. ولكن لماذا أرى هذه النجيمات تتلألأ في سماء (بلغاريا) ذات الزرقة الداكنة؟ أولست في خيمة؟ ولماذا زحفت خارجها؟ إنني أتحرك، ولكني أشعر بألم ممض يجتاح ساقيّ كلتيهما!
نعم.. لقد جُرحت في المعركة.. ولكن هل الجرح خطير؟! إنني أتحسس ساقي في الموضع الذي يؤلمني.. إن ساقيّ كلتيهما يكسوهما دم متخثر، وعندما أمسُّهما بيدي يصير الألم أسوأ.. إنه كألم الأسنان فظيع ومستمر!
أحس طنيناً في أذني ودواراً في رأسي.. إن ساقيّ مصابتان بجروح بليغة.. ماذا يعني ذلك؟! ولماذا لم يلتقطوني؟! أم ترى أن الأتراك هزمونا؟! إنني بدأت أستعيد ما حدث.. ليس بوضوح أول الأمر، ولكني الآن متأكد من أننا لم نهزم مطلقاً.. لقد وقعت أنا في مكاني هذا عندما كان قائداً سريتنا يشير إلى مكانٍ ما، ويصيح بصوته القوي:
(أيها الرجال.. علينا أن نصل هناك)، ووصلنا، ولكن لم أكن أنا معهم طبعاً، ولهذا فنحن لم نُهزم.. لماذا، إذن، لم يأخذوني من هنا؟! إن هذا الحقل واسع المساحة، ومنه يستطيع المرءُ أن يرى كل شيء.. أعتقد أنني لست الوحيد في هذه البقعة.. علي أن أدير رأسي الآن.. إنني أستطيع ذلك بسهولةٍ، أكثر، لأنني عندما أفقت ورأيت العشب والنملة حاولت أن أرفع جسمي قليلاً، إلا أنني سقطت، ولكن لا على بطني كالسابق، وإنما على ظهري.. وهذا هو سبب استطاعتي رؤية النجوم الآن!
إنني أحاول أن أكون في وضع الجلوس.. إنه لأمر صعب أن تكون كلتا الساقين محطمتين.. حاولت عدة مراتٍ أن أجلس دون جدوى، وفي النهاية وبعد ان انهمرت الدموع من عيني لفرط الألم استطعت أن أجلس.. فوقي قطعة من السماء الداكنة، فيها نجمة كبيرة، وبضع نجيمات أخرى تلمع.. ومن حولي شيء أسود طويل.. لا بد أن يكون هذا الشيء شجيرة.. إنني بين هذه الشجيرات لن يستطيعوا العثور علي!
أحس بأن شعر رأسي يقف حتى نهايته، ولكني أريد أن أعرف كيف صِرت وسط هذا الشجر مع أني أصبت في الحقل؟ لا بد أنني زحفت إلى هنا دون أن أشعر.. ولكن لماذا لا أستطيع الحركة الآن رغم أنني وصلت إلى هذا المكان.. ربما كنت مصاباً بجرح واحد آنئذٍ، ثم لاحقوني برصاصهم وأنا أزحف إلى هنا!
بدأت أرى بقعا قانية شاحبة تتحرك من حولي، كما أن النجمة الكبيرة أخذت تخبو شيئاً فشيئاً، كما واختفت النجيمات الصغيرات.. إنه القمر يبزغ، آه.. كم يبدو الأمر جميلاً والإنسان في بيته الآن!
إنني أسمع صوتاً غريباً أشبه بالأنين.. نعم إنه أنين.. أترى أن شخصاً جريحاً بالقرب مني نسوه كما نسوني بساقين مهمشتين، أو رصاصةٍ في معدته؟! إن الأنين يبدو قريباً جداً.. ولكن هل هناك أحد غيري بقربي؟! لا أظن.. يا إلهي.. إنه أنا ولا أحد غيري.. ولكنه لا زال يبدو لي أنيناً موجعاً.. إنه يقطع نياط القلب.. أحس بدوار في رأسي.. أفكاري قاتمة مضطربة.. من الأفضل أن أستلقي مرة أخرى وأنام.. أنام؟! ولكن هل سأستيقظ؟ أوه.. ذلك غير مُهم!
وفي اللحظة التي أردت فيها أن أستلقي، كان نور القمر يغمر المكان الذي أنا فيه، فرأيت شيئاً ضخماً ممداً على مسافة قريبة مني.. إنه جندي.. نعم، تلك أزرار بدلته تلمع، وتلك مهماته الحربية.. إنه إما ميت أو جريح.. ذلك لا يهم.. المهم أن أستلقي وأنام!
إن رجالنا لم يهزموا، إنهم هنا، لقد زحزحوا الأتراك واحتلوا هذا الموقع، لماذا إذن، لا أسمع أصواتهم؟ لابد أن يكونوا قريبين من هنا، لا شك في ذلك!
- النجدة! النجدة!!
وخرجت صرخاتي مبحوحة، واهنة، ممزقة.. ولا مُجيب.. إنها تبدو عالية في سكون الليل.. الصمت يلف المكان، فيما عدا أصوات رفيف الجراد التي لا تتوقف.. إن القمر بوجهه المستدير ينظر إلي بإشفاق!
لو كان هذا الجندي الذي بقربي نائماً لأيقظته بصيحتي.. إنه جثة هامدة.. هل هو من رجالنا؟ أم أنه من الأتراك؟ أوه.. يا إلهي.. ذلك غير مهم، وداعب النوم جفنيّ المتعبين فنمت!
إنني الآن مستلق وعيناي مغمضتان رغم أنني بقيت مدة طويلة وأنا يقِظ.. إنني لا أرغب في فتح عيني، فنور الشمس لا يطاق.. إنه يجعلني أتألم أكثر.. من الأفضل ألا أتحرك.. أمس - أظنه كان أمس - جُرحتُ.. لقد مر نهار وليلة، وسيتبعهما نهار آخر وليلة أخرى، ولسوف أموت.. ذلك لا يهم.. المهم أن أدع جسمي في مكانه!
كم هو جميل لو أبطل هذا الدماغ الملعون عمله، ولكن لا شيء يُمكن أن يوقفه.. إن الأفكار والذكريات تتدافع في رأسي.. ذلك لن يدوم طويلاً.. سوف تأتي النهاية قريباً.. ستظهر في الجرائد سطور قليلة تقول: إن خسائرنا لا تكاد تذكر.. الجرحى كثيرون، وفقدنا قتيلاً واحداً هو الجندي المتطوع (إيفانوف).. لا، حتى اسمي لن يذكروه.. سيقولون ببساطة: فقدنا عسكرياً واحداً.. تماماً، شأني شأن ذلك الكلب الصغير!
وتومض الصورة كلها واضحة في مخيلتي.. لقد حدثت منذ وقت ليس بالقصير، إذ ما زال كل يوم عِشته من حياتي ماثلاً في ذهني، في الوقت الذي أترك أنا فيه اليوم بساقين مصابتين.. الحادثة تتلخص في أنني كنت ذات يوم أسير في الشارع، وإذا بحشدٍ من الناس واقفين ينظرون إلى (شيء) ما أبيض اللون ينزف دماً، وهو يئن ويتألم.. لقد كان كلباً صغيراً جميلاً دهسه الترام.. إنه يحتضر، مثلي الآن.. وجاء عامل وشق طريقه وسط الحشد فالتقط الكلب من عنقه وحمله بعيداً، وتفرّق الناس!
هل سيحملني أحدهم الآن؟ كلا، بل سأبقى هنا لأموت.. يا لها من حياة جميلة تلك، في ذلك اليوم - أقصد يوم حادثة الكلب - كنت أسير مزهوا كما لو كنت ثملاً.. كان ذلك لسبب وجيه.. أوه، أيتها الذكريات.. توقفي عن تعذيبي ودعيني لشأني.. إن ذكرى سعادة الأمس تؤلم اليوم.. استمري أيتها الأوجاع، ولكن دعيني أيتها الذكريات الحلوة، لا تعذبيني.. أوه.. إنني أحس بانقباض.. إنه أسوأ من هذه الجروح المؤلمة.. على أية حال، يبدو أن الحرارة شديدة.. إن الشمس تشويني، إذا فتحت عينيّ فلا أرى سوى هذه الأغصان، نفسِ الأغصان من حولي.. ومن فوقي هذه القطعة من السماء.. نفسُ القطعة.. وها هو جاري التركي جُثةٌ هامدة بلا حياة.. لماذا قتلته؟ إنه يرقد هنا مضرجاً بدمه.. لماذا ساقه القدر إلي؟ من هو؟!
من المحتمل أنه مثلي له والدة عجوزٌ مسكينة.. إنها ستجلس آناء الليل وأطراف النهار عند باب كوخها البائس، تنظر نحو الأفق البعيد منتظرةً عودة ولدِها الحبيب، ومُعيلها الوحيد! وأنا.. أنا أيضاً.. ليتني مُتُّ مكانه.. يا له من سعيد.. إنه لا يسمع ولا يعي أي شيء، على الأقل فهو قد استراح من آلامه، كما أنه لا يشعر بالعطش مثلي.. لقد أغمدت حربتي في قلبه تماماً، ولا يزال الثقب الواسع ذو اللون الداكن واضحاً على صدر بدلته.. إنني أنا الذي قتلته.. الحقيقة إنني لم أرد ذلك، فعندما جئت إلى هذه الحرب لم أكن أحمل شراً تجاه أي مخلوق.. كنت دائماً أنسى تماماً أنني سأقتل، كنت فقط أستعدُّ لأعرض صدري للرصاص، وجئت، وهذه هي النتيجة.. يا للسخف.. يا للسخف.. هذا الفلاح التعس - إنه يرتدي بدلة مصرية - غير ملوم.. إنه لم يكن قد سمع عن روسيا، أو عرفَ شيئاً عن بُلغاريا عندما شحنوه على ظهر إحدى السفن، إنهم أمروه بالذهاب فذهب.. لو أنه رفض لجلدوه، أو ربما لوضع الباشا رصاصةً في رأسه.. لقد مشى الطريق الطويلة الشاقة من (إسطنبول) إلى (رسجك) فهجمنا ودافع هو ببندقيته (المارتن).. ولما وجدته وثبت عليه وأغمدت حربتي في قلبه.. لقد كان بإمكانه أن يقتلني بضربة واحدة من قبضةِ يده.. كيف يمكن أن يُلام إذن؟ وكيف أُلام أنا أيضاً؟ أوه.. إن العطش يُعذبني.. العطش! - ماذا تعني هذه الكلمة؟
لقد سبق أن مشينا عبر (رومانيا) قاطعين خمسين فرسخاً كل يوم في تلك الحرارة الشديدة التي تقرُبُ من أربعين درجة مئوية.. إنني لم أجرب ما أمر به الآن.. آه.. ليت أحداً يأتي فيلتقطني!
يا إلهي.. هذه قنينة التركي.. لابد أن فيها شيئاً من الماء، فلأزحف إليه.. إن الأمر سيكون فظيعاً، ومع ذلك، فلا بد من الوصول إلى القنينة.. بدأت أزحف الآن.. إنني أجرجر ساقي من ورائي.. إن ذراعيّ الواهنتين لا تحتملان ثقل جسمي.. إن الجثة على مسافة خمسة عشر قدماً مني، ولكنها تبدو لي على بعد أميال، ومع ذلك، فعلي أن أزحف.. إن حنجرتي تحترق.. سوف أموت بسرعة بدون ماء.. مازلت أزحف، ولكن قدميّ لا تريدان أن تتحركا.. إنهما تتشبثان بالأرض.. كل حركة منهما تسبب لي ألماً لا يُطاق.. إنني أصرخ من شدة الألم، ومع ذلك فقد واصلت الزحف.. وأخيراً وصلت إليه.. هذه هي القنينة وفيها ماء.. ما مقداره؟ أكثر من النصف.. أوه.. لدي الآن من الماء ما يكفي لإدامتي حتى نهايتي المحتومة.. إنك تنقذني يا ضحيتي! فلأفتح القنينة، وأملت نفسي، واعتمدت على مِرفقي.. ولكني فقدت توازني، فانكفأت بوجهي على صدر ضحيتي، وزكمتني رائحته المُنتنة!