كنت قد كتبت السبت الماضي عن الدرس الأول المستفاد من الثورات العربية، وطرحت في المقال: أن استطلاعات الرأي العام التي من المفترض أن تقيس نبض الشارع وهموم المواطن هي الغائب الأكبر في مجتمعات الثورات العربية، وأشرت إلى أنه حتى نتائج
استطلاعات الرأي التي قد تقوم بها تلك الأنظمة لا تقيس درجة الغليان الموجودة في دواخل مواطني تلك الدول، كما أن الأغلبية الصامتة هي التي ينبغي أن تخشاها الأنظمة السياسية لأنها لا تعبر عما يجيش في القلوب أو تعكس ما تطمسه سطوة السلطة القمعية في تلك الأنظمة.. واليوم نكتب عن الدرس الثاني المستفاد من الثورات العربية..
لم تحاول الأنظمة السياسية في عدد من الدول العربية مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ان تعمل على الإصلاحات الداخلية بشقيها السياسي والاقتصادي قبل اندلاع الحراك الشعبي في تلك البلدان.. وقد انبنت فرضية زائفة في عقلية تلك الأنظمة أن الوضع القائم يعكس الخيار الأفضل لتلك الشعوب، ولا توجد خيارات إصلاحية أخرى.. هذا ما قبل أحداث الربيع العربي.. أما مع اندلاع الحراكات الشعبية فقد حاولت تلك الأنظمة ان تبدأ في عمليات إصلاح مؤقتة وجزئية وهامشية في محاولة لإسكات أصوات الشارع وامتصاص غضب المواطنين، ولربما في هذا الدرس نحتاج أن نسلط الضوء على بعض ملامح ما يمكن أن نسميه بالإصلاحات المتأخرة في تلك الأنظمة:
1- وضعت تلك الأنظمة سقفا لإصلاحاتها، فلم تكن تفكر أبدا أن تتجاوز أي إصلاحات في هيكلياتها السياسية حدودا معينة، لأن أي إصلاحات تتجاوز ذلك السقف فستهدد المصالح الشخصية أو الحزبية لتلك الأنظمة، ولهذا على مر العقود الماضية لم تشهد كثير من الأنظمة العربية إصلاحات هيكلية كبرى في تطور أنظمتها السياسية، ومعظم تلك الإصلاحات كانت جزئية ومرحلية وتدرجية عبر الوقت، ولم تشكل في أي وقت ما نسميه بالإصلاحات الجذرية لتلك الأنظمة.
2- لاحظنا أن معظم الشعارات التي انطلقت من شوارع تونس والقاهرة ودمشق وصنعاء وطرابلس أجمعت على ثلاث قضايا هي المساواة والعدل والحرية، وهي قضايا محورية للشعوب، وتنادي بها من أجل إصلاح حقيقي في بنية أنظمة بلدانها.. وعانت شعوب دول العالم النامي بشكل عام من تأزمات هذه القضايا وتداعياتها على الحياة العامة والفردية في تلك البلدان.
3- عندما بدأت تدرك الأنظمة السياسية جدية التظاهرات الشعبية بدأت في موجة كلامية من الحديث عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، ولكنها ظهرت على استحياء، ولم تكن تعبر عن إخلاص حقيقي في عمليات الاصلاح المتوقعة من النظام.
4- رأس الهرم السياسي أو الحزبي في بعض من تلك الدول محاط بعدد من المستشارين وكبار شخصيات الدولة وهم يحاولون جاهدين ان يغيبوا القرار السياسي عما يدور في الشارع.. وقد عرضت تلك الأنظمة طريقة الاصلاح بالتقسيط.. فلم تكن حزمة الإصلاح كاملة، بل جاءت على مراحل وبمستويات متدرجة في التنازلات، إضافة إلى تشكيك الشارع العربي بمصداقية وجدية تلك الإصلاحات..
5- عقلية القطيع التي تسود توجهات الرأي العام المتظاهر في شوارع عواصم ومدن تلك الدول لعبت دورا في بناء تأجيج متصاعد من الاحتجاجات وتواصلها بانتظام وبجماهيرية متنامية.. وهذا جعل متطلبات الجماهير تتصاعد وسقف الاحتياجات تنمو إلى أن وصلت إلى تغير النظام بكليته وشخوصه.
6- لم تشهد الأنظمة التي سقطت والأنظمة التي تتصاعد فيها الاحتجاجات يوما بعد يوم أي تفعيل حقيقي لأي شكل من أشكال الإصلاحات، بل كانت عبارة عن وعود أطلقت من قبل تلك الحكومات في محاولة من تلك الدول إلى تسكيت الجماهير وإلهائها بتلك الوعود..
7- حاولت حكومات تلك الدول توظيف سياسة «تضييع الوقت» بالتحجج بأنظمة وقوانين تحتاج إلى تغير أو تبديل، وتحويل ملف الاصلاح إلى مجالس أو لجان بهدف تسويفها وتبديد مضمونها وبالتالي شراء وقت جديد ليتنفس النظام ويعيد ترتيب أوراقه من جديد..
8- القراءة النفسية لتداعيات الأحداث تشير إلى أن أي تنازل من طرف الحكومات يتبعه رفع سقف المتطلبات عندما يكون تنازل ا لحكومات جاء كردة فعل لتظاهرات الشارع.. فقراءة الشارع تشير إلى أن الحكومات عندما تتنازل وتلوح بإصلاح النظام يعني انها بدأت مرحلة الانهيار الجزئي أو الكلي..
9- لا شك أن قوى معارضة لأنظمة تلك الدول قد لعبت دوراً قد لا يكون واضحاً في تأجيج الاحتجاجات وتصعيد الأزمات ورفع سقف المتطلبات بهدف الوصول إلى درجة عدم اتفاق أو عدم تلاق بين الحكومات والجموع الغفيرة من الجماهير والحشود التي تجتاح الشوارع يومياً أو أسبوعيا كل يوم جمعة.
10- لم تستطع حكومات تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن من إدارة الأزمات التي واجهتها بالشكل المطلوب، بل إنها أساءت إدارة الأزمات وسلمت ملفاتها لشخصيات متعنتة غير قادرة على فهم الشارع، ولا كيفية التعامل معه، كما لم تقدم الاستحقاقات التي تتطلبها المرحلة..
وأخيراً، فإن سيناريو إصلاحات النظام التي شرعت فيها بعض الأنظمة العربية التي سقطت (تونس ومصر وليبيا) أو في طريقها إلى السقوط أو التغيير (سوريا واليمن) جاءت متأخرة جدا، وعندما جاءت كان الشعب قد تجاوزها.. ولهذا لم تجد نفعا دعوات تلك الأنظمة في الاصلاح، لأن الشعوب قد أعلنت كلمتها ولفظت تلك الأنظمة.. والإصلاحات عندما تكون في أوقات اعتيادية وبمبادرات ذاتية تلقى القبول حتى لو كانت أقل مما هو مفترض وأقل مما ينبغي، ولكنها عندما تكون تحت ضغوطات الشارع وتهديد الجماهير تكون المتطلبات أكثر وسقفها أعلى يصل إلى أعلى درجات التغير الممكنة.
alkarni@ksu.edu.sa