هل هناك إجابات صادقة على هذه الأسئلة:
س: ماهو الثمن المترتب على الاستعانة بالهيمنة الخارجية (الإمبريالية ما غيرها) للخلاص من حكومات وأوضاع فاسدة لا يرجى إصلاحها من الداخل بالطرق السلمية؟. هل المتوقع أن يكون الثمن صفراً، أو فاتحة تعاون عادل بين الطرفين، أم تبعيةً امبرياليةً مشروطة؟.
س: ما هي النتائج المحتملة لسقوط الاتفاقات والمعاهدات الدولية الضامنة لحدود وسيادات الدول الضعيفة أمام أي تحالفات مصالح بين عناصر ثائرة داخلية وقوى خارجية طاغية بمبرر التدخل حسب الطلب لحماية حقوق الإنسان والأقليات ونشر الديموقراطية، بغض النظر عن التدقيق في كمية الحقيقة أو الانتهازية في تلك الادعاءات؟. أعيدكم إلى مثال العراق المحتل والاتحاد اليوغوسلافي الممزق بدون أمل في إعادة تركيبه، مع رجاء القراءة المتأنية لمبادئ التدخل ونتائجها النهائية.
س: هل استنفدت كل الوسائل النابعة من المخزون القومي والتاريخي والشرعي للتخلص من دكتاتوريات الداخل ولم يبق سوى اللجوء إلى ورثة الاستعمار التاريخيين لطلب الخلاص؟. هل إيطاليا موسوليني وفرنسا جيموليه وبريطانيا أنتوني إيدن تختلف في فكرها وتطلعاتها عن إيطاليا بيرلوسكوني وفرنسا ساركوزي وبريطانيا كاميرون؟.
س: هذه الأمة التي يجمعها التشارك في الجغرافيا واللغة والتاريخ والعقيدة متى تبدأ في النظر بجدية وشجاعة في العوامل المعطلة لطاقاتها من مفاهيم قديمة وعقليات نفعية وتحالفات مصالح على كل المستويات، وتبدأ في استغلال مصادر مناعتها الذاتية بدلاً من استيراد المضادات والأمصال الدفاعية من الخارج؟.
انتهى ما عندي من تساؤلات، ولكن قبل البحث لها عن إجابات اجتهادية يجب استحضار واقع الحال بوضوح ودون خداع وكذب على النفس.
لنقل إنك عربي مسلم سني من طرابلس أو بني غازي أو مصراته. كنت حتى نهاية الأمس القريب تتعاطف مع الجهاد الإسلامي وتلعن الكفار وتحرض على الدفاع عن بلاد الإسلام ضد الغزوات الصليبية والصهيونية في فلسطين والعراق وأفغانستان وكل بلاد المسلمين. فجأةً، هكذا وبصدفة التقاء المصالح الظرفية تلحس كل قناعاتك وثوابتك وتبدأ التعاون مع من كنت تلعنهم بهدف التخلص من طاغيتك المحلي اللعين. ما الذي غيرك وجعلك تنسى ما كنت تسميها ثوابت العقيدة والجغرافيا واللغة والتاريخ وتنقلب عليها؟. السبب واضح. أنت لا تمتلك ما يكفي من المناعة والحصانة المعنوية والمادية لتخلص نفسك بنفسك من مأزقك التاريخي الفاسد، وهذا منذ مئات السنين. أخضعت في لحظة تمصلح انتهازية جميع ادعاءاتك القديمة لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. لا شك أن ما جرى في ليبيا سوف ينتهي بالتخلص من الطاغية المحلي لكنه سينتهي أيضاً بهيمنة حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي على كل مقدرات ليبيا الأساسية، هؤلاء سوف يتركون للشعب الليبي بالطبع حرية التعبد والدعاء آناء الليل وأطراف النهار، ولكن سوف يكتمون أنفاسه الاقتصادية والوطنية والقومية وتطلعاته العلمية والتقنية، ألم يكونوا يتعاونون في كل شيء مع القذافي حتى في تعذيب السجناء ثم تخلوا عنه حين انتهت صلاحيته؟.
ما يحصل في سوريا يسير في نفس الاتجاه الذي حصل في ليبيا، كل الأطراف الثائرة على الحكم الطائفي اللئيم في سوريا أصبحت تطالب علناً بالتدخل العسكري الغربي لتخليصها من السرطان الداخلي، من ضمن المطالبين بهذا النوع من الخلاص أئمة مساجد وعلماء شريعة وأدباء ومفكرون ليبراليون وعروبيون وأطباء وأساتذة جامعات، هؤلاء كانوا كلهم بالأمس يتشدقون بالممانعة والوقوف المشرف ضد الهيمنة الأجنبية ويلعنون أنصاف الرجال المستسلمين للإملاءات الغربية، حسب أدبياتهم المسجلة بالصوت والسطر والصورة في كل وسائل الإعلام، ما الذي جعل كل هؤلاء فجأةًً، وبصدفة الحاجة الظرفية والتقاء المصالح يغيرون المسار باستدارة خلفية كاملة؟ السبب واضح، إنهم لم يمتلكوا يوماً قدراً كافياً من المناعة الذاتية والحصانة الأخلاقية يجعلهم يدعمون الصراخ بالأفعال للوصول إلى الخلاص دون الاستنجاد بالأعداء التقليديين.
ملالي وسياسيو شيعة العراق وشيوخ عشائر الصحوة السنية ضيعت العراق من قبل بنفس الطريقة، العراق أصبح فعلياً مستعمرةً فارسية أمريكية بكل ما تعنيه كلمة مستعمرة من معنى.
القراءة الصحيحة لما يحدث هي إدراك خطورة وخطأ تفكيك الانتماء الأصلي القديم النابع من الميزة الجامعة للجغرافيا واللغة والتاريخ الموروث وتحويلها إلى تفاصيل فرعية مذهبية وقبلية وفئوية لتخدم مصالح انتهازية لأفراد ومجموعات، كل الأمم التي استطاعت البقاء على قيد الحياة عبر التاريخ منذ بدايات التجمعات البشرية في دول، كانت وما زالت تعيش على مبدأ التعاضد الجمعي حول ركائز الجغرافيا واللغة والتاريخ المنقول والعقيدة الأصلية غير المفككة إلى تفاصيل مذهبية واجتهادات فقهية. كل أمة تخلت عن هذه الأصول الجامعة لصالح التفاصيل الانتهازية تآكت من داخلها وافترس بعضها بعضاًوفقدت هويتها ثم اندثرت من التاريخ. قديماً قال أحد أباطرة الفرس: ما جمعته الأسود تبدده الضباع، ما أصدق هذا القول لوصف واقع العرب الحالي.