هزم المنتخب، وكالعادة بدأ البعض بالنّدب والنحيب متباكياً على الأيام الخوالي الذي كان مكان المملكة في تصفيات كأس العالم شبه مضمون. وخلا من مشاركتنا الأولى في عام 1994 والتي وصلنا فيها للدور الثاني، كان حضورنا في المناسبات الأخرى شرفياً ولم نحقق أي إنجاز يُذكر
بل كان لبعض المشاركات، والنتائج المتحققة انعكاس سلبي علينا فيما بعد. فمنذ مشاركتنا الأولى في كأس العالم تغيّرت الرياضة وخصوصاً كرة القدم من حولنا في الدول الأخرى بشكل جذري. فاستطاعت اليابان، أعظم الدول في مجال التقنية، تطوير فريق كروي متقدم، وتضاعف الاقتصاد الكوري أكثر من ثلاثة أضعاف وتضاعفت معه قوة منتخبها الرياضي، وكذلك تطوّرت الكرة في تايلاندا، وعمان، والبحرين وغيرها من الدول. وتطوّرت الرياضة لدينا أيضاً ولكن ليس بالشّكل الذي يسمح لنا بتجاوز دولٍ دخلت مجال منافستنا مثل كوريا، واليابان، وأستراليا، لأنّ هذه الدول ببساطة دول متقدمة في كل شيء، وليس كرة القدم فقط.
ولكننا، ومع هذه الحقائق التي لا مراء فيها، مستمرون وللأسف بالدوران في المربع ذاته، ونستخدم الأساليب التقليدية ذاتها التي تقادم عليها الزمن، ومثلنا في ذلك مثل من تسلّق جبلاً في وقت ما ونجح في ذلك، ما ثم عاود تسلُّق جبال أخرى بالأسلوب ذاته ومن الجادة ذاتها في جميع الجبال الأخرى، رغم اختلاف الجبال والتضاريس، فالجبال اختلفت والقمم ارتفعت. ولا زلنا ننظر إلى الرياضة، وكرة القدم على وجه الخصوص بعدسة «زووم» تركّز على فئة صغيرة من الرياضيين المحترفين فقط، المنتخب وعدد من الفرق الرياضية «المحترفة»، وتجاهلنا الوضع الرياضي والصحي للشباب السعودي عموماً.
وحقيقة، ورغم فرحنا بنتائج المنتخب، وترحنا لخسارته، وتمتعنا بمنافسات دورينا الكروي الذي صنّفناه نحن بأنه الأفضل في العالم العربي، إلاّ أنّ القيمة الفعلية وليس الانفعالية، لوصولنا لكأس العالم، أو خروجنا منه لا تستحق كل هذا الاهتمام الذي يبلغ أحياناً درجة التشنّج، والعائد الفعلي منه لا يتجاوز الحدود الإعلامية. وبما أننا نخرج كل مرة نشارك فيها بنتائج هزيلة، فقد يكون الستر أفضل حتى إعلامياً. فوضعنا الكروي عموماً، مع كامل الاحترام لكل مذيعينا، ومحلّلينا، والضيوف الدائمين للشلل الكروية التلفزيونية، لا يستحق كل هذا الاستنفار، والبرامج، والمؤتمرات الفضائية التي تمتد لساعات طوال من الأخذ والرد، والمناقشات، والمجادلات، والمداخلات والاتصالات الهاتفية. فهذه البرامج تصوّر أمور كرة القدم الرياضية وكأنما هي قضايا مصيرية للوطن والأمة، والأمر. في النهاية كرة، كرة قدم ورياضة من عرض الرياضات الأخرى.
غير أننا لو وسعنا نظرتنا للوضع الرياضي لدينا، ولو حاولنا النظر بعدسة ذات بُعد أوسع (وايد انقل) لعرفنا ما هي الدواعي والمسببات لإخفاقنا الرياضي عموماً والكروي خصوصاً. فالإنجازات تعتمد على بنية تحتية اجتماعية، وصحية، ورياضية قوية وصلبة تشارك فيها معظم قطاعات المجتمع. فالبنية التحتية السليمة هي من يضمن الإنجازات المستمرة وليس الطفرات الوقتية، والتذبذبات المتواصلة. فمثلاً، وحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة من بعض المستشفيات ومراكز البحوث لدينا، تبلغ نسبة السمنة بين شبابنا 35%، وتبلغ 75% فيما فوق الأربعين، ونسب السكري لدينا هي الأعلى عالمياً وتتجاوز 30%، أما أمراض القلب فحدث ولا حرج. والوعي الغذائي لدينا متدنٍ إلى درجة لا نحسد عليها، وطلاب المدارس يقتاتون على البطاطا المقلية، والبروستد، والأندومي، وخارج المدارس على المندي، والمثلوثة، والهامبورجر وغيرها من أغذية الدمار الشامل. وأغلبيتهم اليوم يمارس الرياضة على أجهزة السوني، والأكس بوكس فقط، لأنه لا توجد أماكن ميسّرة وملائمة لممارسة الرياضة الحقيقية.
ولا تمارس الرياضة في مدارسنا إلاّ على نطاق محدود وفي ساحات وأحوشة إسمنتية، ولا توجد في أحيائنا أي ملاعب أو أماكن لممارسة الرياضة، لأنها كلها تحوّلت إلى أراضٍ ومخططات عقارية، وغابات أسمنتية، ولو كان هناك كأس عالم في الطمع العقاري لضمنّا هذه البطولة بدون منافس. حتى أنّ بعض العقاريين اليوم حوّلوا بعض الأراضي لملاعب مسبقة الدفع تؤجّر على الشباب بالساعة بالرغم من أنها أرض بور! وبالرغم من ازدياد الغبار، والحر الشديد فلا توجد لدينا أي ملاعب أو ميادين تقي الناس من هذه الطبيعة القاسية وتسمح بممارسة الرياضة. وبعد هذا كله، «زووم» مجموعة صغيرة من اللاعبين ينتقلون فجأة من فقر مدقع إلى عقود بعشرات الملايين نتيجة للتنافس المحموم من قِبل أعضاء شرف لجلبهم للأندية، منتخب ومدرب عالمي ونتائج غير متوقعة، حتى أنك عندما تخسر لاعباً لا تستطيع أن تعوّضه بآخر. فالأستراليون الذين هزمونا يتغذّون غذاءً سليماً ويستنشقون، هواءً نظيفاً، ويرتعون في حدائق خضراء ومروج غنّاء، وينامون تحت براد هواء طبيعي لا هواء مكيفات فريون. وبالنظر لقاماتهم المديدة أيضاً فإنّ خسارتنا منهم بثلاثة أهداف فقط يعتبر أمراً منطقياً جداً.
ففي الدول التي تنافس على كأس العالم توجد ملاعب للأطفال والشباب في كل زاوية وعلى أرقى المستويات، وبلديات المدن ترعى هذه الملاعب، وحدائق وملاعب أخرى تسمح بممارسة الرياضة, وعندما تشاهد أطفالهم بزيّهم الرياضي يلعبون الكرة، وتلاحظ طريقة تنظيم لعبهم تخال أنك تشاهد فريقاً في الدوري الممتاز لدينا. وأجهزة رعاية الشباب لديهم تركّز على التوعية الصحية، والغذائية، والذهنية للشباب، والمدارس تشكّل أقنية توعوية صحية أخرى بتقديم الطعام المناسب لصحة الطالب، ولا توكل تغذية المقاصف لشركات تسمين الطلاب بالطعام الرديء بأيدي عمالة آسيوية مشكوك في نظافتها. والرياضة في هذه البلدان لا تقتصر على كرة القدم بل تمتد إلى جميع أشكال الرياضة.
وقد سبق وكرّر الكاتب مطالبته بتخفيف التوتر المحيط بكرة القدم، وبالتوقف عن النظر لنتائج المنتخب وكأنما هي أمر مصيري، والتوقف عن الصرف ببذخ على المدربين والأجهزة الأجنبية المصاحبة، وصرف هذه المبالغ على تأهيل كوادر سعودية بالكامل، حتى ولو تطلّب الأمر إنشاء أكاديميات رياضية للتدريب والأجهزة المصاحبة تعني بتأهيل الشباب السعودي وتأمين الوظائف لهم، فالرياضة اليوم اقتصاد وصناعة وإن لم يكن لها مردود اقتصادي ومادي على المجتمع، فلا يجدر بنا إهدار المال العام عليها. والأمر ذاته ينطبق على الفرق الكروية التي يمكن النظر في سعودتها بالكامل، وحينئذ ننظر لنتائج فرقنا بروح رياضية منفتحة ونتقبّل الهزيمة بالقدر نفسه الذي نفرح فيه بالنصر. فالرياضة اليوم علم وثقافة وليست نظرة ضيقة لعدد محدود من اللاعبين.
فللنظر مثلاً للاعبين القدامى الذين كان بعضهم حتى عهد قريب نجوماً ساطعة في عالم الكرة لدينا، واليوم يستجدون لقمة العيش أو يعملون في أعمال بسيطة، بالرغم من أننا استثمرنا فيهم أموالاً طائلة من المال العام والخاص، وقدموا لنا من أنفسهم وجهدهم الشيء الكثير. ألا يمكننا الاستفادة من هؤلاء بشكل ما؟ كمدربين للأطفال في مدارسنا مثلاً للاستفادة من خبراتهم السابقة بما يكفل لهم عيشاً كريماً، ويسهم في تطوير الرياضة لدينا؟ وفي الختام نتمنى أن نغيّر نظرتنا للرياضة ككل، ونغلق تلك الثقوب السوداء التي تستنزف مواردنا، ونبدأ بالنظر للرياضة كجزء من حياتنا الصحية والاجتماعية تخفف عنا السمنة والسكر وأمراض القلب، ونخفف العبء الثقيل على نظامنا الصحي، ونترك المنافسة على كأس العالم لحين يمكننا فعلاً وذاتياً المنافسة عليها، والله الموفق.
latifmohammed@hotmail.com