أمسك الجدار حتى استلم الأجرة، وفي الأصل القصيمي الدارج: امسِكْ الجْدارْ ليْن أستِلِم العرِقَه (من العرق مقابل الجهد المبذول).
ما زلت أتذكر هذا المثل الذي سمعته في الصغر كل ما رأيت عملا تم أداؤه بمواصفات هزيلة في هذه البلاد المبتلاة بسوء تنفيذ المشاريع، مثل المدارس ومناهج التعليم والمستوصفات والمستشفيات وتطبيقاتها العلاجية والشوارع والأنفاق ومشاريع التصريف وطريقة التخلص من النفايات.
المثل كما سمعته كان يقال (وما يزال) في بيئتي القصيمية للتندر على إنجاز عمل رديء أخذ صاحبه عليه أجرا، وأصله أن اثنين من البنائين عندما أتما بناء جدار لمالك دكان نبه أحدهما صاحبه إلى أن الجدار مائل وسوف يسقط سريعا، فرد عليه الآخر: امسك الجدار (لكي لا يسقط) حتى أستلم الأجر (ثم بعد ذلك فليسقط).
أظن أننا نستطيع استثناء أنفسنا من الشعوب المعروفة بإتقان ما تقوم به من أعمال، مهما كانت بسيطة أو معقدة التركيب لأن حظوظنا من الإتقان مازالت متواضعة جدا.
أن ترسل مركبة فضائية إلى كوكب يبعد عن الأرض مائة وخمسين مليون ميل وتبرمجه على الوصول إلى هناك في الساعة السادسة والدقيقة العاشرة والثانية الخامسة عشرة مثلا ويحدث ذلك فعلا، هذا إتقان هائل بكل المقاييس، وهذا ما تفعله وكالة الفضاء الأمريكية على سبيل المثال. أن تصنع سيارة مثل لكزس أو مرسيدس (بدون حصر)، بما لهما من مواصفات الراحة والأمان وسهولة القيادة وخارطة الطريق الفضائية ومسجل الصوت الرقمي ومكيف الجو ذاتي التشغيل .. إلى آخر المواصفات الفائقة الدقة، ذلك أيضا إتقان هائل بكل المقاييس للعقول التي تعاونت على صناعته وإخراجه بهذه الدقة، حتى لو ساقه الحظ العاثر إلى يد شاب مستهتر من أثرياء الخليج يسيء استعماله ولا يعرف قيمة ما بين يديه ولا يستطيع أصلا أن يستوعب ما بداخله من مجهود عقلي ومهارات يدوية.
الكرسي والمنضدة وقطع الأثاث المنزلي حين يتم التعامل مع مواصفاتها بذوق النجار الماهر تتحول إلى قطع فنية فائقة الإتقان وتختلف عن الكراسي والمناضد والأثاث الخشبي التي صنعت لتؤدي غرض الجلوس عليها فقط والمنظر لا يهم.
حينما يتعارك آسيوي من العرق الأصفر لا يزيد وزنه على ستين كيلوجرام مع خصمين أو ثلاثة من جنسية أخرى، أمريكية أو أوروبية أو عربية مثلا فيتغلب عليهم بخفة الحركة وسرعة الالتفاف ودقة الركل والوخز بالأصبع الواحد في المواجع ونقاط الضعف فيسقط خصومه على الأرض ويبقى واقفا على قدميه، هذا أيضا نوع من الإتقان الفائق الذي يدل على احترام الجسد البشري والعناية بمكامن طاقاته اللا محدودة واستثمارها عند الحاجة للدفاع عن النفس. مثل هذا الإتقان للمهارات الجسدية الذي أصبح رديفا لفنون الدفاع الآسيوية عن النفس لم يحصل كصفة جينية موروثة للصفر على الخصوص دون الحمر والبيض والسود، لكنه أتى كمحصلة نهائية لعناية الآسيوي بالجسم البشري واستنفار طاقاته وعدم الاكتفاء باستعماله كأداة للتكاثر وحمل الأثقال. على هذا القياس تستطيع عاملة آسيوية شل حركة الأسرة التي تخدمها بالكامل عند الضرورة، والسائق الآسيوي شل حركة كفيله وأولاده عندما يجد الجد ويزول الخوف من العقاب الجنائي الرسمي. السبب في فارق التفوق هو فارق الإتقان في التعامل مع طاقات الجسم البشري.
كلكم لاحظتم مئات المرات ذلك الفارق المدهش في التدفق اللغوي والقدرة على التعبير باختيار المفردة المناسبة والنبرة المعبرة عن الموقف بين أطفال وطلبة المدارس من أبناء إخواننا المصريين والشوام والسودانيين وبين أبنائنا تلاميذ وطلبة المملكة العربية السعودية. التباين الواضح في تلك القدرات يشمل في الواقع كل الفئات العمرية من الجنسين ويمتد إلى أعلى المراكز الوظيفية والمسئوليات. الشامي والمصري والتونسي والسوداني أكثر فصاحة وقدرة في التعبير باللغة العربية الفصحى من ابن هذه الصحراء صاحب الأصول العربية الأولى، وهذا شيء مدهش ولافت للنظر. مرة أخرى الفرق هو الاعتناء بمهارات اللغة وتنمية حرية وإتقان التعبير منذ الطفولة، وذلك شيء يكاد يكون مفقودا بالكامل في بيئتنا المحلية.
لكن واختصارا لتضييع الوقت في ضرب الأمثال، هل نحن نتقن شيئا بالفعل؟. فكروا قبل الإجابة في مختلف المهارات الحرفية اليدوية والتقنية الميكانيكية والإلكترونية، والنجارة وتفصيل الملابس، وهكذا حتى تصلوا إلى القدرات اللغوية التعبيرية، ثم اسألوا أنفسكم لماذا نحن هكذا؟. حينما أسيء الفهم في معنى أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وألبس المعنى لباسا عرفيا واجتماعيا أكبر من مقاصده الشرعية المحددة، حين ذاك بدأت المسيرة تأخذ هذا الاتجاه وأصبحت المهارات الحرفية من العيوب الاجتماعية ثم امتد ذلك إلى كل المهارات.