يوشك الشهر السابع أن ينصرم منذ بداية ثورة التغيير في اليمن المطالبة برحيل الرئيس علي عبدالله صالح ونظام حكمه بحثاً عن مطلب بناء الدولة اليمنية الحديثة، كما لخصتها مطالب الشباب المعتصمين في ساحات التغيير والذين التحمت معهم مجاميع شعبية من مختلف مكونات الشعب اليمني.
ولئن كنا قد استعرضنا في خمس حلقات نشرنها الجزيرة سابقاً جوانب من أوجه المشهد اليمني المتعددة نعود اليوم إلى ذات المشهد لنقف مرة أخرى أمام معوقات الحسم التي حالت بين الثورة وبين بلوغ أهدافها رغم امتلاكها كل المقومات على الأقل من الناحية النظرية وفقاً لما يراه منظرو الثورات وفلاسفتها بمختلف مذاهبهم واتجاهات الفكرية والسياسية، حيث تمسكت بالتغيير السلمي رغم كل محاولات جرها إلى مربع الاقتتال ورغم توفر إمكانية نشوب حرب أهلية في بيئة تمتلك كل عناصر قيام مثل هذه الحرب إلا أن خيار الشباب في سلمية الثورة أكسبهم احترام العالم وصدق المطلب وحسن النوايا وهي عوامل تسهم في بلوغ أي ثورة إلى غايتها.
لكن العامل أو العوامل التي أخرت هذا الحسم في اليمن لا تكمن في الشباب ولا في الثورة من حيث التوقيت أو الإستراتيجية لكن الأزمة هي أزمة نخب سياسية تعيشها اليمن منذ فترة طويلة من الزمن ووجود كوابح صنعها النظام واستطاع بذكاء شيطاني أن يستخدمها كحاجز بينه وبين الشعب.. هذه الكوابح ممثلة بالمعارضة التي يصورها النظام على أنها ممثل الشعب ويركن الشعب كثيراً إليها بينما هي لا تمتلك أي قدرة تواجه بها النظام الذي تمكن من تفتتيتها وزرع عملاءه ورجاله في أوساطها وتركيبتها العتيقة المعتقة.
ففيما يتعلق بأزمة النخب السياسية فالأزمات التي تعيشها اليمن ليست جديدة وكل الوجوه السياسية المعروفة في السلطة والمعارضة ساهمت في خلق هذه الأزمات بشكل أو بآخر أو تحاورت مع النظام حولها واقتنع الشعب أن هناك حواراً ربما يفضي إلى حل أو حلحلة بعض هذه الأزمات لكن كل حوار كان يسهم في تعميق الأزمة وليس أدل على ذلك من الحوارات التي سبقت حرب صيف 94 والتي سبقها حوار بين مختلف القوى السياسية في السلطة والمعارضة أسفر هذا الحوار عن توقيع ما سمي بوثيقة العهد والاتفاق في الأردن لتشهد بعهدها اليمن أول اقتتال بين شريكي الوحدة بعد أربع سنوات أو أقل من إعادة قيام الوحدة اليمنية.
في سياق الحوارات المتعاقبة كانت اليمن قبل أكثر من عامين على أبواب استحقاق دستوري للانتخابات البرلمانية وبدلاً من أن تضغط أحزاب المعارضة من أجل التعجيل بالانتخابات شاهدناها تطالب بالتأجيل وتدخل في حوار مع السلطة كان المستفيد من هذا الحوار هو السلطة التي حصلت منه على تأجيل الانتخابات لمدة عامين بينما لم تحصل المعارضة حتى على خفي حنين، ناهيك عن الشعب الذي لم يكن أصلاً حاضراً بمعاناته في هذا الحوار إلا من باب تقاسم المقاعد الانتخابية حسب تعداد الشعب.
وبعد أن حقق النظام ما يريده من الحوار وهو التمديد والهاء المشهد السياسي بأن هناك حواراً وأن هناك قوى تتحاور كأيّ بلد ديمقراطي في العالم لجأ إلى اتهام المعارضة بأنها غير جادة وأنهم عملاء خونة لا يريدون للشعب خيراً وظلت أيدي المعارضة صفراً حتى انتهت فترة العامين التي تم التمديد فيها لمجلس النواب وكانت ثورة الشباب هي المعبر عن الكيل الذي طفح به الشعب.
وبذكائه المعهود لجأ علي عبدالله صالح إلى تمييع الثورة بتحويل الأنظار بأن المسألة لا تعدو مجرد أزمة بين أحزاب المعارضة وحزب السلطة وبرزت أحزاب المعارضة من جديد كعامل من عوامل إطالة عمر النظام عبر المغازلات والمبادرات التي يطرحها الرئيس صالح تجاههم وردود أفعالهم المتباينة تجاهها والتي يكتفي النظام بمجرد إصدار أيّ تصريح منهم لكي يقول للشعب أو لكي يتذكر الشعب هذه المعارضة ويركن إليها ويطول عمر النظام بعيداً عن المواجهة بينه وبين الشعب.
في سوريا كما هو في اليمن تحولت المعارضة والقوى السياسية المؤيدة للثورة إلى كوابح تحمي النظام من الشعب، فلو المسافة بين السلطة والشعب فضاء لا تملؤه هذه المعارضة لكان بإمكان الشعب الانقضاض المباشر على السلطة ومواجهتها كما حصل في النموذج الليبي الذي لم يكن هناك أمام الثوار أيّ أحزاب أو قوى سياسية منظمة تدعي النظال باسم الجماهير، فكانت المواجهة المباشرة ونظم الثوار أنفسهم في مرحلة المواجهة لكن وجود الأحزاب المعارضة في اليمن جعلها تقف في المسافة الفاصلة بين الشعب والسلطة فلا هي تمتلك مقومات التغيير لهذا النظام ولا هي تركت الشعب يواجه مصيره ويأخذ حقه ممن استبدوا به وعبثوا بمقدراته.
واليوم وبعد أن عاد ثوار اليمن من شباب التغيير إلى خيار التصعيد الثوري ودعوتهم للسياسيين أن يرفعوا أيديهم عن الثورة والسير بها في منعطفات السياسة وتركهم يحسموا المواجهة بالتصعيد الثوري السلمي كما أسموه مع بقايا النظام أو سلطة علي عبدالله صالح هل فعلاً سيكون بإمكانهم الوصول إلى الحسم وفقاً للسقف الزمني الذي حددوه؟.. وهل الكوابح التي تقف في طريقهم قد تم القفز عليها؟.. في رأيي إن الحسم بات وشيكاً وقريباً لعدة أسباب.. أولها تبدد مخاوف العالم الخارجي من احتمال تحقيق أيّ قوى إرهابية مكاسب في اليمن يكون لها تأثيرها المستقبلي على أمن اليمن والإقليم وعلى المصالح الدولية، ويبدو الأمر واضحاً من استعادة زمام الأمور في محافظة أبين رغم كل ما قيل عن ملابسات المواجهة فيها. الشيء الآخر كان هناك طرح أن من يسمون بالثوار أو شباب التغيير هم مجموعات مغرر بها ولا تلبث أن تعود إلى منازلها وأنهم سيصابون بالملل إلى جانب تضييق الخناق على الشعب بالأزمات المتعددة من نقص في الوقود وانطفاء الكهرباء ولعب الإعلام على وتر أن هذا هو ما كسبتموه من الثورة كل هذه الرهانات سقطت وأثبت الثوار صلابة موقفهم وزاد الالتحام الشعبي معهم، وبدا العالم يتفهم موقفهم ومن ثم لاحت انفراجات أبرزها عودة الروح إلى المبادرة الخليجية التي يريد صالح من خلالها الإبقاء على شرعية وجوده في السلطة إلى حين، عبر تفويض نائبه بصلاحية التوقيع على المبادرة والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة يصبح معها الحديث عن رحيله أمراً غير مبرراً طالما أن الفترة الزمنية هي بضعة أشهر حتى يتم فيها انتخاب رئيس جديد ولكن بشروط من؟.
هذا هو السؤال الذي لا توجد له إجابة حتى الآن ويجعل الشباب يصرون على أن المبادرة لا تعنيهم لأن إجراء انتخابات رئاسية في ظل سلطة على عبدالله صالح والدستور الحالي المفصل على مقاسه ومجلس الثوار الذين بيدهم مفتاح تزكية المرشحين هم من حزبه والذين نجحوا بالآليات المعروفة والتي استخدمها أحمد عز وجمال مبارك في الانتخابات البرلمانية قبل ثورة 25 يناير في مصر. إن الحديث عن انتخابات رئاسية في اليمن بالشروط القديمة أمر لا يقبل به عاقل فبإمكان مجلس النواب تزكية مرشح المؤتمر الشعبي العام الحاكم وحجب التزكية عن غيره وبالإمكان أن يكون مرشح المؤتمر الشعبي العام هو أحمد علي عبدالله صالح وهنا ينطبق المثل القائل «كنك يا أبوزيد ما غزيت» سيكون عدم استقرار إذا مضت الأمور على هذا المنحى سيكون هناك عدم استقرار على المدى القريب والبعيد في اليمن وربما يصل الغليان الشعبي بعدها إلى مستويات الخطورة المتمثلة بالحرب الأهلية التي لا يتمناها الجميع لليمن، ومن هنا فإن الحديث عن تطبيق المبادرة الخليجية لن يكون مجدياً إلا إذا تضمن خروج علي عبدالله صالح وكل أسرته من السلطة وترك الأمور لنائب الرئيس والمعارضة وقوى الثورة أن يرتبوا مرحلة انتقالية يعدل فيها الدستور وتتوفر شروط جديدة لانتخابات رئاسية تضع اليمن على أعتاب الخروج من نفق الاستبداد والفساد اللذين يعيش فيهما منذ عقود من الزمن. ويظل في الحسبان نجاح الشباب في تصعيد ثورتهم السلمية بإسقاط بقايا النظام كما يسمونه، خاصة أن الالتحام الشعبي مع التغيير وصل ذروته عندما قرر الناس الوصول إلى صنعاء مشياً على الأقدام من مسافات عشرات الكيلومترات بعد أن منعت قوات الحرس الجمهوري التي يقودها أحمد نجل الرئيس علي عبدالله صالح دخول المركبات إلى صنعاء وفرضت عليها حصاراً تماماً من كافة مداخلها الأمر الذي اضطر الناس إلى ترك مركباتهم في خارج العاصمة بمسافات بعيدة والسير لمسافات قد تستغرق أكثر من يوم كامل، وهذا مؤشر على إصرار الشعب على التغيير، وأنه لا مستقبل لعلي عبدالله صالح ولا لمن بقي من أسرته في السلطة. ومطلوب من كل الخيرين وبالذات القوى الإقليمية أن تحاول قراءة الموقف اليمني بمزيد من التمعن واتخاذ المواقف المساندة للشعب بعيداً عن مصالح الأطراف المتصارعة سواء الظاهر منها أو المخفي وما خفي كان أعظم.