ليس على مستوى تاريخنا الحديث، بل القديم كذلك سجلاتنا حافلة بألوان المقاطعات، مقاطعة سياسية، مقاطعة اجتماعية، مقاطعة اقتصادية. قاطعنا الآخرين، وهجرناهم، وهاجمناهم تحت دوافع وبواعث مختلفة منها الديني، ومنها خلاف ذلك.
بلا شك أسلوب المقاطعة أسلوب من أساليب كثيرة تنتهجها المجتمعات المسالمة، ويمارسها الأفراد، لتحقيق أهداف محددة، تحت ضغوط معينة، وأسهل ما في هذا
النهج بدايته حين تكون العواطف ثائرة، أما أصعب ما فيه فهو الاستمرار والصمود، نمارس هذا النمط أحيانا بوصفه أضعف درجات الإيمان في الإنكار، أو الاستنكار تجاه حدث ما، أو سلوك ابتزازي معين.
تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وتحت وطأة الاحتلال قاطعنا إسرائيل، وأساء فرد لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم فقاطعنا، أو حاولنا مقاطعة دولة كاملة اقتصاديا في بعض منتجاتها، وبسبب ارتفاع أسعار السيارات رفعنا شعار، أو حاولنا رفع (خلوها تصدي)، وفي الواقع أنهم (تركونا نصدي)، وحينما فكرت إحدى الشركات المحلية، المنتجة للألبان ومشتقاتها رفعنا شعار المقاطعة، وقبيل سنوات معدودة، ولاختلاف بعضنا مع سياسة بعض الصحف هيجنا المجتمع لمقاطعة بما سميناه في ذلك الوقت (خضراء الدمن)، وهكذا سارت بنا الأيام، ومضت بنا الحياة، وستمضي بغيرنا، ونحن على هذا الحال ننتحب، وهم يتمثلون بقول القائل:كناطح ِصخرة يوما ليوهنها.... فلم يضرها، وأوهى قرنهُ الوعلُ
أطرف هذه المقاطعات، حين طرحنا فكرة المقاطعة الداخلية لإحدى الشركات المحلية، وارتمينا بأحضان شركة أخرى أجنبية تمارس ذات النشاط، قاطعناها على حد زعمنا - ولم نصمد - بدوافع دينية، غيرة، وتكريما، وانتصارا.
لا أدري بالفعل، هل تم تقييم هذه الممارسات من أساليب المعارضة، أو الرفض الاجتماعي، لما نعتقد أنه خروج عن المألوف، أو يصطدم بثابت من ثوابتنا، أو يهدد أمننا الغذائي؟ أم أن تلك الحملات ردود أفعال وقتية تمتصها الأيام والليالي، ونستسيغها عن قناعة، أو بدون قناعة؟ يبدو أننا لم نعرف الخصم وامكاناته، ولم نقيّمه، وإلا لما أقدمنا على رهان خاسر، وأمام الفشل المتكرر قد لا تعاد مثل تلك المحاولات.
كنت أعتقد -ولا زلت- أن التفكير الجاد من المسؤولين، والمجتمع بجميع شرائحه في بدائل أخرى في مثل هذه الأزمات، تتمثل في المطالبة بكسر سوق الاحتكار، وتسهل أمام المستثمرين سبل المنافسة، وتحفز الشباب، ورجال الأعمال إلى الابتكار، ومحاولة الانتاج المحلي الذي لا يجعلنا أسرى أمام كل مستورد.
قد تكون الظروف الاقتصادية، والسياسية، والتطور التقني والصناعي الذي نعيشه مهيأ لنا أكثر من أي وقت مضى، فاستغلال الفرص، والاعتماد على الذات، والتدبير المعيشي هو الذي يبقى للشعوب أو المجتمعات، أما ما عداها فربما كان ضرره علينا وعلى غيرنا دون أن نشعر بذلك، أو ندرك أبعاده.
dr_alawees@hotmail.com