هل أجّج (الربيع العربي) الميادين والبلدان فقط، أم أنه، وبالتزامن، ألهب طباعا جديدة ترعرعت وسط الركام؟ هل أزاح حكاما متشبثين وحسب، أم أنه أطاح أعرافا وطيدة بين البشر، ونصّب ثقافة لا قبل لنا بها؟ هل عزز الجرأة على الثورة في وجه الحاكم فقط، أم حقن جسارة أخرى وليدة، قوامها الإقدام على الفعل والترك، والثوران في وجه كل بغيض؟
وعلى نحو باد للعيان، فقد أسهمت الثورات في بث ثقافة الجرأة، وتحطيم الرموز، والسعي الحثيث وراء المراد. وهذه واحدة من أشد تبعاتها الثقافية مفعولا. وحين يرى الفتيان رئيس دولة قديم ومسن، يُجلب مضطجعا على سرير المرض وسط قفص صغير، عدا عمن فر أو من جرى الاعتداء عليه بالنار الحارقة، فلن تبق لديه نتفة هيبة حيال المقدس والمعهود والرمزي. وعلق أحد المحللين على هذا المشهد بالقول : «لقد قلب هرم السلطة رأسا على عقب». وإذا كان يرمي إلى السلطة السياسة، فإن سلطة أخرى قد قلب هرمها بكل تأكيد، هي سلطة التوقير، والاتّباع، والمراعاة.
ويهرع الشباب الجدد إلى «فيس بوك» و»تويتر» و»سكايب» و»لينكد إن» و«نت لوق» و«قوقل» و«يو تيوب» و«الآي باد» و«الآي فون»، ليعثروا في خضّمها على ملاذ بديل: يسير وزهيد وممتع وفي متناول اليد، يلقي عن عواتقهم تبعات الالتزام القديم شديد الوطأة إزاء الناس والعلاقات والتقاليد المنمقة.
لقد أمست الأواصر أكثر هشاشة من ذي قبل، وتفاقمت - على نحو ملحوظ - الجرأة على ارتكاب المعيب : قطع علاقة، التضحية بصديق، تبديل النية، إبداء وجه آخر كالح وصادم...، وهلم جرا. ولا غضاضة، فقد قالت لنا الثورات – من ضمن ما قالت - إن أي فعل إنما هو منوط فقط بالقدرة، فإذا كنا نستطيع فلا بأس أن نفعل، بغض الطرف عن ماهية هذا الفعل، حتى لو كان إزاحة رئيس دولة .
في سالف الزمن، كان الشارع والحي والقوم - بالعموم - هي المجال الوحيد الذي ينساق فيه الناس، فلا مناص - إذ ذاك - من مواكبتها والظفر باستحسانها. أما الآن، فقد صار الشارع هو الموقع الإلكتروني، والحي هو الشبكة، والقوم هم رواد الفضاء السبراني. وبالتالي، بات الرمز هو الأيقونة، والعرف هو لغة البرمجة، والمعيب هو ما لم يتسن فعله، لا غير.
إن (الربيع العربي) ليس سياسيا بشكل حصري، بل تمخض فقط من رحم السياسة، لكنه أسقط حقبة ثقافية عتيقة، ودشن أخرى قوامها: إذا كان الشعب يريد، فليفعل.
المملكة المتحدة
ts1428@hotmail.com