ربما يكون هذا العجز الذي تحدثنا عنه في المقالة السابقة هو ما أنتج شعارات غريبة يرددها من مسخت الأنظمة العربية قدرتهم على التفكير؛ في مثل من يعبرون عن رغبتهم في ترك الرؤساء الذين عبثوا بمصير بلدانهم عشرات السنين يخرجون أو يتنحون دون محاكمة أو مساءلة أو دفع ثمن لكل الجرائم التي ارتكبوها. في عبارات بائسة: اتركوا الرئيس في حاله! وكأنه عابر سبيل أراد الناس الإيقاع به، أو «ارحموا عزيز قوم ذل!» نعم، الانتقام ليس مطلوباً؛ لكن محاكمات الأفعال المخزية من قتل وبلطجة وإيذاء كرامة الإنسان، لا بد أن يكون لها مكان بارز في أولويات الشعوب العربية، إن أرادت أن تدخل إلى ميادين العصر الحديث، ولئلا تتكرر تلك الأفعال من زمر لاحقة، أو يستهان بها في مخيلة الشعوب، كما كان الأمر قبل التصحيح. حتى إن مرجعيات القيم أصبحت مختلطة على كثير من الناس بسبب تلك الشعارات التي تخفي في كثير من الأحيان هياكل ظلم وطغيان؛ إلى أن وصلنا إلى مرحلة تشبه العزلة عمن حولنا من المجتمعات وشعوب الأرض.
وقد قادت هذه الشعارات شعوباً كثيرة في التاريخ إلى تصديق انطباق مضامينها على واقع حياتهم، وأدى إلى إيمان مطلق لدى العامة بعظمة الأفراد الداعين إلى دعوات غوغائية هدفها إيجاد السكرة لدى الجماهير وصناعة القناعة بمثالية واقعها، ثم وصم المجتمعات الأخرى بما يخالف تلك الطبيعة المثالية. فنشأت في تاريخ البشرية مصطلحات أساسية في معجمات اللغات القومية مثل «البرابرة» و «البربرية» تُحدَد على أساسها هوية المجتمع القومية، ويقابل ذلك هوية المجتمعات الأخرى المختلفة. وهذه المصطلحات منتشرة كما هو معروف في الثقافة اليونانية القديمة ثم الرومانية، لكن انتشارها في الثقافة العربية – الإسلامية التي يُدعى أنها ثقافة التسامح والانفتاح هو ما يدعو إلى العجب، خاصة إذا وجدناها عند أشخاص ليسوا أقل من الفارابي في كتاب الموسيقى الكبير وابن خلدون في مقدمته الشهيرة. ومن أمثلة ذلك: «وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسيّ أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق، يسكنون الفيافي والكهوف ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضاً، وليسوا في عداد البشر»؛ «ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك لأن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلْقهم وأخلاقهم»؛ «ولهذا إنما تذعن للرق في الغالب أمم السودان لنقص الإنسانية فيهم، وقربهم من عرض الحيوانات العجم كما قلناه». فالحقيقة تُحجب عن العقل، وتحل بدلاً منها صورة واحدة راسخة لحقيقة موضوعية مطلقة؛ تتكون تبعاً لأهواء أصحاب القوى التي تسعى إلى ذلك الحجب.
فماذا بشأن وجود الحقيقة الموضوعية المطلقة؟ في الواقع إن الحقيقة ترتبط دائماً بنسق تصوري يتحدد في جزء كبير منه بواسطة المجاز؛ وكثير من تصوراتنا المجازية استوطنت في ثقافتنا عبر مراحل زمنية طويلة، لكي تصبح جزءاً من تصور الحقيقة. وأغلب تلك التصورات فرضها أناس في موقع القوة كالقادة السياسيين أو الدينيين، أو أصحاب رؤوس الأموال والنفوذ، أو وسائل الإعلام وغيرها من مراكز القوة.
وفي أي مجتمع تكون الحقيقة الموضوعية على رأس الاهتمامات ومطلقة دائماً، فثم أناس يسعون إلى فرض تصوراتهم المجازية على الثقافة، ليحددوا ما الذي يجب علينا أن نعده حقيقة موضوعية ومطلقة. وما البلطجة والاستعانة بقوى لفرض تلك الحقيقة القائمة إلا وسيلة لخلق الرعب، ثم الرضا بما يحرره الداعم لتلك العصابات من ثقافة لجماعات النخب وتوزيع القوى داخل المجتمع.