قصة: سيقولود كارشن - ترجمة: أحمد عثمان البسام
تجرعت كمية لا بأس بها.. كان الماء حاراً ولكنه نظيف، وبقي منه شيء قليل.. سوف أعيش أياماً أكثر.. أذكر أنني قرأت مرة بأن الإنسان بإمكانه أن يظل على قيد الحياة أكثر من أسبوع بلا طعام إن كان لديه ماء.. نعم، كما أتذكر محاولة الانتحار التي قام بها أحدهم، حيث أجاع نفسه حتى الموت، ولكنه عاش مدة طويلة لتناوله الماء!
حسناً.. وماذا لو عشت خمسة أو ستة أيام أخرى؟! ما سوف يحدث حينئذ؟ لقد ذهب رجالنا ولن يعودوا، وأنا منقطع هنا عن العالم.. الأمر سيّان.. يجب أن أستعد للموت.. أم أن آلامي ستدوم أسبوعاً بدلاً من ثلاثة أيام؟ ولكني أوليس من الأفضل أن أضع نهاية حياتي بنفسي؟ هذه بندقية جاري في متناول يدي.. بندقية إنجليزية فاخرة.. لا ينقُصُني إلا أن أمُد ذراعي قليلاً ثم تنطلق وينتهي الأمر.. الذخيرة وافرة، فالرصاص مُكدَّس بجانبه، لم يكن لديه الوقت الكافي لتصريفه كلّه!
أضع نهاية لحياتي أم أنتظر؟ ولكن أنتظر ماذا؟ أن ينقذوني؟ أم أنتظر الموت؟ أو أنتظر الأتراك يأتون فيشرعون في سلخ الجلد عن ساقيّ الجريحتين؟ الأفضل أن أضع حداً لعذابي بيدي!
كلا.. يجب ألا أفقد شجاعتي.. سأكافح حتى النهاية.. إلى آخر رمق.. إن هم وجدوني فسوف أنجو بالتأكيد.. يجوز أن عظامي سليمة فأشفى، وعندئذٍ أتمكن من رؤية أمي وماري!
إلهي.. أتوسل إليك ألا يعرفوا بما أقاسيه الآن.. دعهم يعتقدون أنني قُتلت.. ماذا يحدث لو علموا بأنني بقيت أتعذب مدة يومين.. ثلاثة.. أربعة أيام!
إن رأسي يلف ويدور.. رحلتي إلى جاري أنهكت قواي.. الشمس تشوي يدي ووجهي، وليس هناك من ملجأ أتفيأ ظله.. أيها الليل.. أقبِل بسرعة.. أظنُّ أنها ستكون الليلة الثانية!
وبدأت أفكاري تضطربُ، وبدأت أفقد وعيي شيئاً فشيئاً.. يبدو لي أنني نِمت وقتاً طويلاً، لأنني عندما أفقت كان الوقت ليلاً، وكان كل شيء على حاله.. عذاب جروحي.. وجاري التركي الضخم وهو مُلقى في مكانه.. لقد صرت أُطيل التفكير في أمر هذا البائس!
أحقاً أنني هجرتُ كل شيء أحببته، وغادرت من هو عزيز علي لأجيء إلى هنا، قاطعاً ألف فرسخ، أعاني الجوع، وأقاسي الحرَّ اللافح والبرد القارس، وأُلقي بنفسي وسط هذا الجحيم لمجرد أن أنتزع حياة هذا الإنسان التعس؟ هل قمت بأي عمل مفيد في هذه الحرب سوى هذه القتلة؟ قتيل وقاتل، ولكن من؟ أنا!!
عندما راودتني فكرة الذهاب للحرب، لم تحاول أمي ولا ماري أن تثنياني عما عزمت عليه، لقد بكتا، رغم أنني لم آبه لدموعهما لفرط ما كنت مأخوذاً بالفكرة.. لم أكن أفهم - أنا الآن أفهم - ماذا كنتُ أرتكبُ بحق أعزّ مخلوقين لديَّ!
أما من توقفٍ لهذه الذكريات؟ لقد كان موقفي غريباً في نظر أصدقائي.. (إنه مجنون، إنه لا يدري ما هو فاعل)، ولكنني أعجب كيف يُوَفقون بين قولهم هذا وبين أحلامهم عن حُبِّ الوطن والبطولة وأمورٍ أخرى كهذه، ومع ذلك فأنا الآن حقاً مجنون!!
قصدتُ (كشينوف) وشحنوني بأمتعتي وكامل معداتي العسكرية، وسرِتُ مع الألوف.. كان فيهم من تطوع مثلي، وقطعنا آلاف الفراسخ، وحاربنا على أمل أن تنتهي المعارك لنعود إلى بيوتنا!
وهبَّت نسمات الصبح الباكر، وبدأت الأغصان تتحرك، ورفَّ طير صغير بجناحيه، وذوت النجوم، وحجبت السماء الرمادية قطع الغيوم البيض، وتصاعد الضباب، وبدأ اليوم الثالث من.. ماذا أسميه؟ من حياتي؟ أم من عذابي؟ اليوم الثالث.. هل سيتلوه رابع و.. على أية حال لن يطول بي الأمر كثيراً.. لقد صرت ضعيفاً جداً، ولا أظن أنني سأقدر على أن أتحرك بعيداً عن هذه الجثة الهائلة المتعفنة.. سأكون مثلك يا صاحبي، ولن يصبح أحدنا مزعجاً للآخر!
لأشرب الآن قليلاً من الماء المتبقي في القنينة، سأتناول منه ثلاث مرات كل يوم.. مرة في الصباح، وأخرى عند منتصف النهار، والثالثة عند المساء. لقد ارتفعت الشمس.. إن قرصها الهائل الذي أراه من خلال الغصون شديد الإحمرار كالدم.. يبدو أن اليوم سيكون شديد الحرارة.. يا جاري.. ماذا ستفعل بك شمس اليوم؟ إنك مخيف الآن على كل حال!
أجل.. إنه مخيف حقاً.. شعر رأسه يتساقط، واصفرت بشرته السمراء، وتمزق الجلد عند الأذن.. وبدأت الحشرات والهوام تدب من حوله.. وانتفخت قدماه، وظهرت زوائدهما من خلال فتحات حذائه الممزق.. وعلى العموم فقد تورم جسمه وصار كالجبل! وها هي شمس اليوم الملتهبة لتزيد في الطين بلة!
إنه لأمر لا يطاق أن أبقى بقربه.. لا بد أن أجُر نفسي بعيداً عنه مهما كلفني ذلك من عذاب.. ولكن هل سأستطيع ذلك؟! كل ما أستطيعه الآن هو أن أرفع ذراعي، وأتناول القنينة لأشرب شيئاً من الماء.. ولكن كيف السبيل إلى تحريك جسمي الهامد الثقيل؟ لا بد من ذلك، ولو قليلاً قليلاً.. مجرد نصف خطوة كل ساعة!
لقد أمضيت الصباح بطوله وأنا أتحرك.. كانت الآلام فظيعة.. أثناء الصباح زحفت قرابة إثني عشر قدماً، فوجدت نفسي في مكاني الأول.. ولكني لم أتمتع بهواء نقي مدةً طويلة، بل سرعان ما غمرتني رائحته المنتنة بعد أن تغير الهواء، ولكن بصورة أفظع جعلت معدتي الخاوية تتقلب.. إن كل ما في داخلي يجيش ويضطرب.. واستمرت الرائحة الكريهة تلوث الهواء من حولي.. وانفجرت أبكي بيأس ومرارة، وأخيراً أرحت رأسي المتعب على الأرض وأنا فاقد الوعي، ومحطم تماماً! يبدو أنني سمعت صوتاً.. كلا.. إنه الوهم الذي يصوره خيالي المريض.. نعم.. إنه ضجيج أصوات، ووقع حوافر خيل.. حاولت أن أصرخ، ولكني سيطرت على نفسي.. إفرض أنهم أتراك، إن ما ينشرونه عنهم في الجرائد يبعث على الرعب.. سوف يسلخونني حياً.. هذا إذا هم اكتفوا بذلك، أم ترى من الأفضل أن تكون نهايتي على أيديهم بدلاً من أن أموت هنا؟! ولكن إفرض أنهم من رجالنا.. أوه، أيتها الأغصان اللعينة.. لماذا أحطتني بهذا السياج الكثيف؟ إنني لا أستطيع أن أرى ما يجري وراءها، اللهم إلا هذه الثغرة التي يمكنني أن أرى من خلالها إلى مسافة لا بأس بها.. هناك على ما أظن الجدول الذي شربنا منه قبل المعركة.. نعم، وذاك هو الجسر الحجري الذي عبرناه، من المؤكد أنهم سيعبرون الجدول من فوقه.. لقد تلاشت الأصوات، أم أن سمعي ضعيف؟ آه لو استطعت أن أميز فقط اللغة التي يتكلمونها.. يا إلهي.. إفرض أنهم من رجالا، عندئذ سوف أناديهم بأعلى صوتي، إنهم سيسمعونني ولو من تلك المسافة، وذلك أهون علي من أن أقع في أيدي (الباشبزق).. لماذا، إذن، لا أراهم؟.. إنني أحس بضجر قاتل، حتى إنني لم أعد أهتم برائحة الجثة الكريهة، رغم إنها تتزايد باستمرار.. وفجأة عبروا الجدول.. لقد رأيتهم، إنهم (قوزاق) ببذلاتهم الزرقاء المخططة، ورماحهم بأيديهم، إنهم قرابة نصف سرية، على رأسهم ضابط ذو لحية سوداء يمتطي فرساً جميلة، وبعد أن عبروا الجدول رأيت الضابط يلتفت بكل جسمه وهو على فرسه يصدر إليهم أمره قائلاً بصوت عال: إلى الأمام!!
فصرخت بأعلى ما أستطيع: النجدة!.. النجدة! قفوا!.. قفوا! ولكن أصوات وقع حوافر الخيل، وقعقعة السلاح، وثرثرة (القوزاق) كانت أعلى من صرخاتي الواهنة!
يا للجحيم!!.. وانكفأت على وجهي منهكاً، ورحت أبكي بحرقة ويأس.. وتسرب الماء من القنينة.. إنه حياتي.. نجاتي أملي ينسكب، فتشربه الأرض الظامئة، وأدركت القنينة وفيها قطرات قليلة!!
وانهار ما بقي في كياني الواهن من قوة بعد تلك اللحظة.. واستلقيت وأنا أنظر بعينين نصف مغمضتين.. وبدأ مهب الريح يتغير، وهبت علي نسمات نقية منعشة.. ثم تغير مجرى الريح ثانية فغمرتني رائحته من جديد.. لقد أصبح جاري هذا اليوم مخيفاً.. عندما فتحت عيني ورأيته أصابني الرعب.. لم يعد له وجه مطلقاً بل تحول إلى هيكل عظمي بتكشيرة مخيفة.. كثيراً ما رأيت جماجم بشرية قبل اليوم.. ولكن ذلك الهيكل العظمي يفزعني الآن، وخصوصاً بالبدلة العسكرية ذات الأزرار اللامعة.. قلت في نفسي: هذه هي الحرب، وإنه لشجها!!
حرارة الشمس لا تطاق.. أحس يدي تحترقان، ووجهي يشتعل.. لقد شربت بقية الماء عندما أحسست بالعطش.. كنت أريد فقط أن أبلل شفتي وحلقي، ولكني لم أقاوم، فتجرعته كله على قلته.. أوه، لماذا لم أستمر في الصراخ لأولئك القوزاق عندما كانوا قريبين مني؟ وماذا يهم لو كانوا أتراكاً؟ ربما كان الحال أفضل.. سيعذبونني ساعة.. ساعتين وينتهي الأمر.. أما الآن فيبدو ألا نهاية لهذا العذاب الذي أكابده.. أمي!! يا أمي العزيزة.. ستمزقين شعرك الأشيب، وتدقين رأسك بالحائط، وتلعنين ذلك اليوم الذي ولدتني فيه، كما تلعنين أولئك الذين يشعلون الحروب لتعذيب الشعوب.. أنت وماري لا تعرفان بالتأكيد ما أقاسيه الآن.. الوداع يا أمي الحبيبة!! الوداع حبيبتي ماري..! أوه.. يا للقساوة.. يا للفظاعة.. أحس بشيء يعتصر قلبي بشدة، وتقفز إلى ذهني صورة الكلب الصغير.. إن الرجل لم يرحمه، بل ضرب الحائط برأسه، ثم قذف به في تلك الحفرة التي يرمون فيها النفايات، رغم أنه ما زال حياً.. لا بد أن عذابه استمر طوال ذلك اليوم..وأنا؟! إنني أشد منه تعاسة.. لقد أمضيت أياماً ثلاثة كاملة، وغداً يحل اليوم الرابع، ويتلوه الخامس ثم السادس.. أوه.. أيها الموت.. أين أنت؟ تعال.. تعال وخذني!!
ولكن الموت لم يأت.. وها أنا لا زلت ملقى تحت هذه الشمس المحرقة دون أية قطرة من الماء أرطب بها حنجرتي الجافة، وبقربي هذه الجثة التي تسممني.. لقد تفسخت تماماً.. وعاثت فيها الهوام فساداً.. وعندما تتلاشى سيأتي عندئذ دوري!! وينصرم النهار، ويحل الليل وكل شيء على حاله.. ويطلع صباح جديد، والحال لا يتغير إنني أسمع لغط الأغصان.. إنها تهمس لي: ستموت.. ستموت.. ستموت.. لن ترى.. لن ترى!! وفجأة سمعت صوتاً عالياً قريباً مني يهتف:
- لن تراهم هنا!
واهتز كياني المحطم، واستعدت وعيي.. وإذا بي أرى الرقيب (يا كفلوف) ينظر إلي بعينيه الزرقاوين, ويصيح: هاتوا المجارف هنا.. يوجد إثنان آخران، أحدهما من رجالنا، والآخر تركي!
وأردت أن أصرخ بهم قائلاً:
لماذا المجارف؟! لا حاجة بكم لدفني!! إنني حي!!
ولكني لم أستطع الكلام، وإنما رحت أئن وأتأوه!
وإذا بي أسمعه يصيح:
يا إلهي.. إنه لا يزال حياً.. إنه صديقنا (إيفانونف) (ماتس)! تعال هنا!
جندينا على قيد الحياة.. ناد الطبيب!!
وصبوا في فمي شيئا من الماء، وحملني الرجال في محفة هادئة، وساروا بي في حركات موزونة جعلتني أنام.. وعندما استيقظت كانت جروح مضمدة، وتلاشت الآلام، وغمرني إحساس طاغ بالارتياح!!
- قفوا! ضعوها! فريق الإسعاف الرابع! تقدم! خذوا المحفة.. إرفعوها! إنه (بيتر إيفانوفج)، ضابطنا الطبيب الذي يلقي الأوامر.. شاب عطوف ذو قامة مديدة وجسم نحيف.. كان طويل القامة جداً، حتى أنني كنت أرى دائماً رأسه ووجهه وكتفيه، حين كان الرجال يحملونني في المحفة على أكتفاهم!!
وهمست أخاطبه:
بيرت إيفانوفج!!
وانحنى فوقي:
ماذا أيها الصديق؟!
وقلت:
- بيتر إيفانوفج.. هل سأموت؟!
كلا أيها الصديق.. لن تموت إنك محظوظ.. عظامك سليمة.. ولكن كيف استطعت أن تقاوم كل هذه الأيام الأربعة؟ ماذا كنت تأكل؟!
- لا شيء!
- وتشرب؟
وجدت ماءً في قنينة التركي.. بيتر إيفانوفج.. إنني لا أقوى على الكلام الآن.. سأخبرك فيما بعد!
- حسناً يا صديقي.. حاول أن تنام الآن!
واستيقظت في مستشفى الميدان، ومن حولي الأطباء والممرضات.. واستطعت أن أميز من بينهم وجهاً أعرفه، إنه البروفيسور (بطرسبرج) المعروف، منحنياً يعالج ساقي ويداه مضرجتان بالدم.. وعندما أنهى عمله، خاطبني قائلاً:
إنك محظوظ.. سوف تعيش اضطررنا إلى بتر ساقك.. حسناً، إنه مجرد أمر بسيط.. أليس كذلك؟ هل تستطيع الكلام الآن؟
وحدثت نفسي قائلاً:
إنني قادر على الكلام الآن، لأخبرهم بما ذكرته لكم هنا!!
