يعود الاهتمام بآثار المملكة العربية السعودية إلى أيام الملك المؤسس عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود الذي فتح المجال لعدد كبير من الرحالة والباحثين والجيولوجيين وخبراء المياه لدخول المملكة العربية السعودية وزيارة مواقع الحضارات القديمة مما أدى إلى التعْرِيف بأماكن لم تكن معروفة وتقديم معلومات عن آثار وتراث المملكة العربية السعودية إلى المجتمعات الغربية، وبداية توعية المواطن آنذاك بأهمية المحافظة على الآثار وصيانتها.
ومن الأمثلة على ذلك الزيارات التي قام بها الممثل البريطاني في الكويت هارولد ديكسون وزوجته فايولت إلى شمال شرقي المملكة العربية السعودية مثل: ثاج، والحناة ونشرهما مقالاً عن آثارهما عام 1948م؛ ثم زياراتهم التاريخية لمدينة الرياض التي نتج عنها وصفٌ مفصلٌ للقصور الملكية في المربع، وقصر الشمسية على وادي البطحاء، وقصر البديعة في البديعة، وسوق الرياض ومعالم معمارية أخرى في وسط المدينة القديمة. والمثال الثاني يتجلى ببعثة هاري سنت جون فيلبي وجاكوب ريكمنز وفيليب ليبنز، تلك البعثة التي اجتازت المملكة العربية السعودية من جدة حتى نجران ثم عادت من نجران إلى الرياض فجدة واستطاعت أن تقف على مواقع أثرية عديدة من أهمها جبل مأسل في الدوادمي، وقرية الفاو في محافظة وادي الدواسر، والأخدود ومواقع نقوش عديدة في منطقة نجران. نسخت هذه البعثة عدداً كبيراً من النقوش والكتابات القديمة والرسوم الصخرية، كما نتج عن عملها عددٌ من المقالات والكتب. والمثال الثالث يتجلى في رحلات هاري سنت جون فيلبي إلى عدد كبير من المواقع في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية مما قاد إلى الكتابة والنشر عن عشرات المواقع الأثرية، والتعْرِيف بها في المجتمعات الأكاديمية العالمية؛ ولعل من أشهر المواقع التي عرّف بها فيلبي قُريِّة، وجبل غنيم، والخبو الشرقي، والخبو الغربي، وغيران الحمام في منطقة تبوك؛ وقرية الفاو، وموقع السيح، وجبل مأسل في الدوادمي؛ ومواقع عديدة في أرض مدين. ومكنته رحلته عبر الربع الخالي من الوقوف على الكثير من المواقع القديمة التي ضمنها في كتابه «الربع الخالي». ويتبين المثال الرابع في أعمال هنري فيلد في شمال وشمال شرق المملكة العربية السعودية التي قادت إلى تقديم قائمة بمواقع عديدة تُؤرخ بالعصور الحجرية، ونشر عدد من المقالات في مجلات عالمية مثل مجلة «Man».
واستمر الاهتمام بالدراسات الأثرية في عهد الملك سعود يرحمه الله، ولعل خير مثال على ذلك السماح للبعثة الكندية عام 1962م بمسح شمال غرب المملكة العربية السعودية والوقوف على الكثير من المواقع الأثرية مثل: تيماء، ومدائن صالح، والخريبة في العلا؛ وكاف ودومة الجندل في منطقة الجوف؛ وعدد من مواقع النقوش في منطقة حائل. أسفر هذا العمل عن نشر كتاب وعدد من المقالات العلمية في مجلات غربية مختلفة مثل مجلة «براتس».
وفي عهد الملك فيصل يرحمه الله استمر الاهتمام بالآثار والتراث، محافظة ودراسة، والتعريف بهما، ولعل خير مثال على ذلك السماح للبعثة الدانمركية عام 1968م أن تعمل في المملكة العربية السعودية حيث قامت بمسح المنطقة الشرقية ابتداءً من ثاج في وادي المياه في الشمال الشرقي وانتهاءً بوادي حرض في الجنوب الغربي؛ وشمل عمل هذه البعثة ثاج، وتاروت، وعدداً من الجزر في الخليج العربي، وواحة يبرين؛ ونتج عنه عددٌ من المقالات وتقريرٌ أولي عن نتائج الحفريات التي قامت بها البعثة. وفي عهده يرحمه الله صدر عام 1392هـ أول نظام للآثار في المملكة العربية السعودية وبقي يُعمل به حتى الآن، وللتذكير طُور هذا النظام وسوف يطبق في نسخته المطورة في القريب العاجل. كما تم إنشاء إدارة خاصة بالآثار كَونت القاعدة الإدارية للتطور الذي حدث مع مرور الوقت حتى أصبحت وكالة لوزارة التربية والتعليم ثم قطاعاً للآثار والمتاحف في الهيئة العامة للسياحة والآثار.
أما في عهد الملك خالد يرحمه الله فقد أصبحت الإدارة العامة للآثار وكالة مساعدة في وزارة التربية والتعليم، وبدأ العمل على خطة خمسيه للمسح الشامل لآثار المملكة العربية السعودية. وتم تطبيق أول مراحلها عام 1396هـ وانتهت آخرها عام 1402هـ شاملة بذلك جميع مناطق المملكة العربية السعودية؛ كما ابتعث عدد من الباحثين لتحضير الدراسات العليا، وعاد أغلبهم بدرجة الدكتوراه، وتأسس أول قسم للآثار في المملكة العربية السعودية في جامعة الملك سعود في عهده يرحمه الله.
وفي عهد الملك فهد بن عبد العزيز يرحمه الله بدأ العمل في استكمال المسح الأثري وتنفيذ الحفريات المتخصصة في هذه المواقع شاملاً أغلب المواقع المعروفة في المملكة العربية السعودية مثل: مدافن جنوب الظهران، وثاج، وتاروت، والربيعية، وفاروق الأطرش، وعين جاوان في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية؛ ونجران في منطقة نجران؛ وسهي والشرجة وعثّر في منطقة جازان؛ والفاو وعين السيح والخِضْرِمة في منطقة الرياض؛ والطوير، واقيال، ودومة الجندل في منطقة الجوف؛ وخريبة تيماء، وحقل المدافن في المدينة الصناعية ورجوم صعصع في محافظة تيماء في منطقة تبوك. كما شهدت النهضة التعليمية الأثرية نمواً كبيراً في عهد الملك فهد بن عبد العزيز يرحمه الله، إذ ابتعث عدد كبير من الطلاب عاد أغلبهم بدرجة الدكتوراه من الجامعات الغربية والأمريكية وأصبحوا أعضاء هيئة تدريس في قسم الآثار، جامعة الملك سعود.
وفي عهد خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز يحفظه الله قفز الاهتمام بالآثار قفزات كبيرة نتيجة للاهتمام الذي حظيت به آثار وتراث بلادنا الغالية من شخصه المحبوب، وتجلى ذلك الاهتمام بضم وكالة الآثار والمتاحف إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار ليصبح الاسم الجديد هو «قطاع الآثار والمتاحف» وليبدأ بتنشيط دوره في الأعمال الأثرية من خلال تفعيل الكثير من البرامج العلمية والميدانية وفي مجال التأليف والنشر. وكذلك في السماح لعدد من البعثات الغربية للعمل في مواقع أثرية بالمشاركة مع فرق محلية؛ فهناك في تيماء فريق سعودي- ألماني، وفريق سعودي- فرنسي في نجران، وفريق سعودي- أمريكي في جرش، وفريق سعودي- فرنسي في الخرج، وفريق سعودي- فرنسي- إيطالي في دومة الجندل في الجوف، وفريق سعودي- ألماني في موقع الدوسرية في المنطقة الشرقية، وفريق سعودي-إنجليزي في جازان، وفريق سعودي- فرنسي في جازان أيضاً، وفريق سعودي- ألماني في حائل، وفريق سعودي- فرنسي في مدائن صالح، وفريق سعودي- فرنسي في كلوة في منطقة تبوك.
كما نشطت أعمال الفرق السعودية المحلية، فهناك فرق تعمل في نجران، والغاط، وجرش، والحريق، وحوطة بني تميم، والنماص، ووادي الدواسر، وشقراء، ودارين، والراكة، والجبيل، والدفي ومواقع أخرى كثيرة إلى جانب المسح الميداني كلما دعت الحاجة.
ولقد أولى يحفظه الله التراث الوطني أهمية خاصة، فأوجد مشاريع ترميم المدن التراثية مثل: الغاط التراثية، وشقراء التراثية، والمذنب القديمة، وسوق عكاظ، وسوق هجر؛ وشمل الاهتمام أيضاً عدداً من القصور التاريخية مثل: قصر الملك عبد العزيز في وادي الدواسر، وقصر العنقري في ثرمدا، وقصر لينه في لينة، وقصر عبد الوهاب في دارين، وقصر إبراهيم في الأحساء، وقصر السبيعي في شقراء، وقصر الدوادمي في الدوادمي، وقصر سعود في محافظة الزلفي، وقصر القشلة في حائل، وقلعة الدوسرية في جازان، وقلعة المعظم في تبوك، وعدد من القصور والقلاع والأسواق التراثية في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية.
واهتمت الدولة بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين في الإسراع في نزع ملكيات المواقع الآثارية والتراثية التي ترى الجهات المختصة أهمية المحافظة عليها؛ فخُصصت مبالغ مالية لهذا الغرض، وقد بدأت إجراءات تعويض عدد من الملاك في المرحلة الأولى؛ مثل: ملاك حي الدرع في الجوف، وملاك الحي القديم في تيماء، وموقع عين قناص في المنطقة الشرقية، وبلدة العلا التراثية، وقصر عبدالوهاب، ومواقع في تبوك، وعدد من المواقع الأخرى التي في طريقها إلى التثمين ونزع الملكية. كما شجع ودعم ووافق يحفظه الله على إقامة معارض تساهم في التعريف بحضارة المملكة العربية السعودية عبر العصور، ومن أحدثها معرض روائع آثار المملكة العربية السعودية الذي يطوف العالم بأكثر من 300 قطعة أثرية أصلية ومعرض الحج الذي سوف يقام في المتحف البريطاني في القريب العاجل، وعدد من المعارض التي سوف تقام في المستقبل القريب.
وفي هذا العهد الميمون اُعتمد أيضاً إنشاء عدد من المتاحف الضخمة في عدد من مناطق المملكة العربية السعودية التي سوف تكون واجهة حضارية لعرض مختلف آثار المملكة العربية السعودية وتراثها. وأصدر حديثاً يحفظه الله أمراً ملكياً بأن تكون جميع هدايا مسئولي الدولة نسخ من مواد التراث الوطني كوسيلة للمحافظة وإضفاء أهمية كبيرة عليه، وخلق فرص عمل ومجال دخل مادي لفئة من المواطنين.
ويُشكل استقبال خادم الحرمين الشريفين قبل أيام قلائل لمجموعة من الأثريين وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار ومشاهدته يحفظه الله لعرض عن آخر المكتشفات الأثرية من موقع المقر في محافظة تثليث والذي أسفر عن مجسمات للخيل تكتشف لأول مرة إلى جانب مواد أثرية أخرى تُؤرخ بالعصر الحجري الحديث، أي قبل آلاف السنين، يُشكل أكبر دعم للآثار والتراث، وأصدق دليل على اهتمام الدولة ممثلة بمليكها المحبوب بآثار وتراث بلادنا الغالية عبر العصور.
وتُمثل تلك الأعمال الأدلة الملموسة والمشاهدة والمقروءة التي تشهد على اهتمام المملكة العربية السعودية وعلى رأسها قائد الوطن، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز، يحفظه الله بآثار البلاد وتراثها عبر العصور كرمز وطني وخزان لتراث الأمة العربية والإسلامية وجزء من الحضارة الإنسانية، وشاهد على مشاركة أسلافنا في صناعة التاريخ في مختلف فروعه.
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود - رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للدراسات الأثرية