من أقصى درجات الإهمال إبقاء الشيء على حاله وتجاهل مرور الزمن عليه وفعله به، هذه القاعدة تنطبق على كل شيء، سواءً كان منزلاً أولباسا ًأو مركبة ً أو قرية ً أو مدينة ًوهلم هكذا حتى نصل إلى الأوطان وأساليب الحكم والإدارة في الدول. عندما تمتلك شيئاً لا تنوي الاحتفاظ به طويلاً تتركه يبلى ولا يهمك أن تتفقده من آن لآخر لتعرف ما أحدثه به الزمن من تجعدات وخروق وانطفاءات في الألوان. يصبح شيئك هذا مثل معطف نيكولاي جوجول القديم في قصته المشهورة عالميا ً « المعطف «. أما إذا كان يهمك الاحتفاظ بهذا الشيء، ولنقل لأن أهميته تتعداك إلى أولادك وأحفادك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، حينئذ لابد لك من الاهتمام البالغ بشيئك هذا حتى لوكلفك سهر الليالي وربما حياتك أيضاً، بهذا المعنى المطلق لا يبقى ما يستحق هذا الجهد والتضحية سوى أشياء قليلة جدا ً تمثل جوهر حياة الإنسان، هذه الأشياء التي تحتوي بداخلها علىكل شيء تشمل الأوطان والعقائد والأهل سلفاً وخلفاً واللغة وإرثك التاريخي. في المحصلة النهائية يصبح كل ما يتوجب عليك تفقده والعناية به وإجراء التغييرات اللازمة عليه هو الوطن فقط، لأنه هو الوعاء الجامع لكل خصوصياتك وممتلكاتك الأخرى. العقيدة والأهل واللغة وقبور الأجداد وذاكرتك التاريخية وأغانيك ورقصاتك، هذه الأشياء كلها تستطيع أن تبقيها مرتبة ً ونظيفة، ًوفي وضع تباهي به الآخرين إذا أنت حافظت على نظافة وسلامة الوعاء الذي تضعها كلها بداخله، ووعاؤك هذا هو وطنك.
لكن هل يتقادم الوطن ويحتاج إلى إحداث التغييرات والتجديد من آن لآخر ؟. نعم يتقادم ويحتاج إلى إعادات وإعادات نظر متكررة ومستمرة لإجراء الترميمات اللازمة هنا وهناك أحياناً، وأحيانالإضافة جداروحصن وقلعة هنا، وجامعة ومصنع وسد وجسر هناك. إذا عليك متلازمة التفقد والترميم والتجديد والحذف والإضافة كمستلزمات وطنية إذا كنت تريد المحافظة على وطنك سليما معافىً. الأمور بهذا المعنى المجازي لا تقتصر على إجراء التغييرات المادية البحتة على أهميتها، فالأهم منها هو إحداث التغييرات القانونية والإدارية التي بها يتم تسيير وتدبير وتطوير الشؤون الوطنية من ألفها إلى يائها، وعندئذ تصبح التغييرات المادية تحصيل حاصل. ما بين الألف والياء تقع أشياءكثيرة ومنها جوهر القضاء وهو العدالة العمياء عن كل ما سواها وإطلاق الحريات الشخصية التي تحفظ للأقليات حقوقها تجاه الأكثريات وكرامة الضعفاء أمام الأقوياء بشرط ألا يترتب عليها إلحاق الأذى في الاتجاه المعاكس، مما يقع أيضا بين الألف والياء في تجديد الأوطان إجراء جردة حساب بشكل متكرر مع العناصر المنتفعة والمسترزقة والمعطلة والمرجئة والمنافقة ومحاسبتها، وإلا أفسدت كل ما بداخل الوطن من الممتلكات العامة والخاصة.
هل ثمة وصفة سحرية تجعل متابعة هذه التغييرات لضمان الجودة النوعية الوطنية سهلا وسلسا ومنهجيا ً ؟. نعم الوصفة موجودة وقد سبقنا إليها الآخرون، وهي التجديد الكامل لذلك الشيء المسمى (التعليم) وزائدته الدودية (التربية). هذا ما فعله مثلا دكتاتوركوريا الجنوبية في الستينيات، والذي أصبح لاحقا الأب الروحي الفعلي لتقدمها، ذلك الرجل كان دكتاتورا قاسيا ً في أساليب الحكم لكنه أحب التقدم لبلاده التي كانت آنذاك في الدرك الأسفل علىكل المستويات، حينما حصلت حكومته على مبلغ جيد من أموال المساعدات الأمريكية لتشجيعها على الصمود في وجه شقيقتها الشمالية الشيوعية، جمع السيد الرئيس أركان حكمه ووزراءه وطلب آراءهم في كيفية التصرف بتلك الأموال الكثيرة، طبعا ً بمفاهيم الكوريين آنذاك. بعضهم طلب تقوية حرس الحدود، وبعضهم اقترح بناء وزارات جديدة أو طرقاحديثة أوسكك حديد، إلى آخر التجديدات في المباني والمنشآت، لم يقترح واحد منهم استثمار جزء من المال في تطوير الإنسان الكوري نفسه.
صرف الرئيس وزراءه قائلا ً : لن تحصلوا على سنت واحد من هذه الأموال، سوف أستثمرها كلها في التعليم الأساسي للطفل الكوري، تلك النظرة الاستشرافية، وإن كانت دكتاتورية ً، جعلت من كوريا الجنوبية ما هي عليه اليوم عملاقا علميا صناعيا ً في الصف الأول.
حينما أجرى دكتاتوركوريا آنذاك التغيير الصحيح فتح الباب فعليا لإحالة كل العقول المنتفعة والمعطلة والمرجئة إلى الاستيداع وسلم مفتاح المستقبل للأجيال القادمة، وساهم من حيث لا يدري في القضاء على الدكتاتورية بواسطة التعليم. ذلك التغيير كان من النوع الأساسي في تغيير الشيء الذي تريد الاحتفاظ به، ويا ليت عندنا -في عالمنا العربي- من ذلك الدكتاتور بعدد ما عندنا من الحكومات العربية، إذا ً لما كنا في هذه الحفرة المظلمة وكل الأمم تحثو علينا التراب.