في محاضرة بأحد الجامعات الخليجية فاجأ دكتور خليجي متخصص بعلم الاقتصاد طلبته بقوله إنكم متخلفون بالفكر الاقتصادي والإداري وأن ثقافتكم السائدة هي ثقافة متخلفة معيقة للتنمية وأنكم من أسوأ الموارد البشرية التي يمكن أن تستخدم في أي عمليات إنتاجية تنموية جنبا إلى جنب مع عناصر الإنتاج الأخرى (الآلة، الأرض، رأس المال)، وأن بلادكم لن تنهض بحال من الأحوال ما لم تعترفوا أولا بتخلفكم وتحددوا فجوة التخلف مقارنة مع الأمم المتقدمة ثم تعملوا على معالجة هذا التخلف بإصرار وعزيمة.
يقول الراوي وهو أحد الطلبة إنهم غضبوا من الدكتور وطلبوا منهم أن يحترمهم وأن يحترم ثقافة بلاده وألا يتحدث بهذا الأسلوب غير اللائق الذي ينم عن رغبة كبيرة في جلد الذات، ويضيف أن الدكتور المحاضر ضحك وقال لهم لا بأس أجيبوني كيف ستكون الصومال التي تعاني حاليا من ثالوث الجهل والفقر والمرض وتعطل التنمية والتخلف في كافة المجالات لو أنا أخرجنا الشعب الصومالي واستبدلناه بشعب من الدول الغربية كالشعب الألماني على سبيل المثال؟ وكيف ستكون الصومال لو استبدلنا الشعب الصومالي بشعب عربي وليكن من إحدى الدول الخليجية؟
يضيف الراوي أنه أسقط بأيديهم وقالوا إذا وضع بها الشعب الألماني ستضاهي الصومال الدول الأوروبية اقتصاديا وسوف يتم استثمار كافة مواردها بأعلى كفاءة ممكنة بما في ذلك الموارد البشرية التي تعتبر الثروة الأكبر وستنشط الصومال صناعيا وسياحيا وعمرانيا وفي مجال اقتصاديات المعرفة وستكون مصدر دعم اقتصادي في منطقة إفريقيا لأنها ستكون مصدر تحفيز لجيرانها للحاق بها في حين ستبقى على وضعها الحالي تقريبا لو وضعنا بها أحد الشعوب الخليجية لأنها دولة غير بترولية والشعوب الخليجية لا تعرف تنمية اقتصادية دون الثروة البترولية.
نقلت هذه القصة لكي أفتح المجال للقارئ ليسرح بفكره ليدرك أهمية الفكر في صناعة الحياة والواقع الذي يعيشه أفراد أي مجتمع بكونه السبيل الوحيد الذي يجعل الإنسان أكثر وعياً لما يحيطه حيث يطلّ من خلاله على عوالم جديدة لتتسم رؤيته بالشمولية التي تجعله أكثر وعياً بالحقائق، وأكثر قدرة على معرفة ما كان يجهله فيما سبق، والرؤية الشمولية والوعي بالحقائق والقدرة على المعرفة هي التي تميز الشعوب عن بعضها البعض ما يجعل بعضها قادرا على التنمية في أسوأ الظروف والمعطيات كما هو الوضع في اليابان حيث الأرض لا تهدأ تحت أرجل ساكنيها، وما يعيق البعض الآخر عن التنمية في ظل معطيات مثالية لتحقيق أعلى معدلات النمو كما هو الحال في كثير الدول الخليجية والعربية التي تنعم بثروات خيالية.
الأفكار البنّاءة لدى كل إنسان تمثّل الثروة الحقيقية التي يتمكّن بها من تيسير حركته نحو تحقيق أهدافه المنشودة، ولا يوجد عمل إلاّ ووراءه فكر، وأنّ الإنسان لا يمكنه أن ينال أيّ تقدّم يضاهي المتقدمين في ميادين الحياة مهما عظمت موارده، ما لم يبدأ بترقية مستواه الفكري قبل ذلك، ونحن وللأسف الشديد ومن خلال الواقع الذي أعيشه في المجتمع أكاد أجزم أننا نود العمل والتنفيذ مباشرة دون فكر في أي مجال كان، ولذلك تجد الكثير ممن هو أعلى المناصب الإدارية لا يفقه من الفكر الإداري شيئا، وكذلك الحال ممن هم يعملون في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية وهو ما انعكس سلبا على منهجية عملهم وأفضى لضعف شديد في فاعلية مؤسساتهم وكفاءتها بشكل مخجل يصل لمرحلة التبديد المؤلم الذي يضاهي آثاره الفساد العميق المتجذر في نفوس المفسدين، وإلا ما سر ازدراء الدراسات والبحوث والأنشطة الفكرية من مؤتمرات وندوات ومحاضرات وورش عمل وحلقات نقاش وغيرها.
ولأضرب مثلا دعونا نتحدث عن الفكر الإداري هل فكر الكثير من المدراء أن الإدارة هي الاستخدام الفعال والكفء للموارد البشرية والمادية والمالية والمعلومات والأفكار والوقت من خلال العمليات الإدارية المتمثلة في التخطيط، والتنظيم والتوجيه والرقابة بغرض تحقيق الأهداف؟ أكاد أجزم أن الإجابة «لا» وأن الكثير يظن أن الإدارة تسيير أعمال دون نقد وعقوبة من المسئول الأعلى وأن أساس تقييم النجاح من الفشل هو رضى المسئول الأعلى الذي يتفنن المدراء في إرضائهم من خلال التقارير المنمقة وحملات العلاقات العامة مدفوعة الثمن، فهل نرى تحولا موقفيا من جهة الفكر في أي مجال ليصار إلى معرفة الجذور والأبعاد الفكرية التي يعمل بها كل منا قبل الشروع بالعمل والتنفيذ كما هو الحال في الدول الغربية؟ أرجو ذلك وأتطلع أن نرى اهتماما بالفكر في العالم العربي مشابها لذلك السائد بالعالم الغربي.
alakil@hotmail.com