(لا أريدُ أوهاماً.. بل أريدُ حقائق.. أريدُ رجالاً يعملون.. فإذا اجتمع أولئك المنتَخَبون وأشكَل عليَ أمرٌ من الأمور رجعت إليهم في حله..وعملتُ بمشورتِهم) حكمةٌ وأيُ حكمة.. ومنطقٌ وأيُ منطق قالها بطل فتجسدت في شخصيته الفريدة.. شخصية علمٍ من أعظم أعلام القادة.. والحكام.. والساسة في العصر الحديث.. شخصية بطلٍ وزعيم.. بطل لأن فجر النهضة أشرق على يديه بعد ليلٍ طويل.. وزعيم لأن زعامته في قومه وشعبه وأمته وعالمه الإسلامي والشواهد واضحةٌ ناصعة لا تحتاج إلى دليلٍ أو برهان.
إمام قضيتُه التوحيد والوحدة.. التوحيد الذي هو جوهر الإسلام والوحدة التي هي جوهر العروبة. إنه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه مؤسسُ وموحدكيان الدولة السعودية، هذا الكيان العظيم لم يوحدْه ويؤسسْه هذا البطل الهمام على أسسٍ تعتمد على المنظورِ الضيقِ للأحداث، بل أسس دولة على منهجٍ فكري منطلق من أسس وثوابت إسلامية استمدها من تاريخ الفكر الإسلامي لتجارب عديدة، تركت مساحة في التاريخ عبر القرون.. لذلك استطاع أن يوحد ويؤسس دولة كبرى مترامية الأطراف، كان للعامل الديني والحكمة في التعامل، والاقتراب غير المباشر من القبائل المتعددة والمنتشرة في بادية شبه الجزيرة العربية، والتحلي بالمرونة السياسية ثم القناعة الفكرية والسير وفق خطط عسكرية دقيقة له أثر كبير مكنه من تجاوز جميع التحديات في سبيل الوصول إلى تحقيق أهدافه.. ودخول الرياض لم يكن إلا بداية لرحلةٍ عظيمة عقد العزمَ على قطعها إلى النهاية.
لقد كان يوم الخامس من شوال عام 1319هجرية يوماً من أيام التاريخ المجيدة في حياة عبدالعزيز.. عمل بطولي.. وانتصار تلته انتصارات حاسمة لمعت فيه شخصيته.. وجَسَدتْ فيها علو الهمة، وبعد الغور، وقمة الشجاعة والفداء، ولأن شجاعتَه وقدراته يستمدها من ثقته بالله فقد ركعت له أسوار الرياض خلال فترة وجيزة.. فانطلق أهالي الرياض انطلاقة فرحٍ لم تدرْ بخلدهم في يوم من الأيام.. انطلقوا مهللين مكبرين عندما نادى المنادي (الملك لله ثم لعبدالعزيز). مجازفة كبرى وبطولة عظيمة انتهت باستعادة عاصمة الآباء والأجداد ليتواصل العمل الدؤوب والجهد المتواصل لفارسٍ ملثم اسمه عبدالعزيز.
لم ينزل ذلك الفارس المغوار عن صهوة جواده بل مضى بكل عزيمةٍ وإصرار يشق البوادي.. يدك القفار بهمةٍ لا ترتفع عن الأرض.. سلاحُه في ذلك قوةُ الإيمان.. وعتادُه سيفٌ حسام.. فلم يمضِ وقتٌ طويل حتى تحقق الهدفُ الأكبر.. توحيد الأرض والشعب.. ودوى صوتُ الحق في مهبط الوحي.. وفي نجد وعموم الحجاز.. في أبها وعسير وهامات جبال شمر.. وفي واحات الأحساء وصحاري النفود والدهناء..وزها الوطن بأثواب الشموخ رافعاً بيارقَ العزِ والفخر للفارس البطل. هذا هو عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الذي وحد كياناً وأسس دولة هي (المملكة العربية السعودية) ومن أقواله بعد توحيد هذا الكيان (إني قد أسست هذه المملكة بقدرة الله وحده الذي عضدني وساعدني والذي كتب لي التوفيق) كلمة حق وتاريخ صدق يشهد على توحيد ونشأة الدولة السعودية على يد هذا الفارس البطل.. دولة قامت على هدي الكتاب والسنة تحت راية التوحيد دولة اقترن فيها التجديد الديني بالتقدم نحو الوحدة السياسية.. وامتزج فيها نمو الفكر باتساع الدولة.. ولأن عبدالعزيز يستمد فكرَه من الإسلام عقيدةً وشرعا.. والدينُ عنده عبادة وسياسة وإصلاحٌ للمجتمع فقد كان يعتز جل اعتزازه بعروبته لأنه يدرك تمام الإدراك أن العروبة اعتزاز بالقيم والتقاليد التي أقرها الإسلام ورسخها.. ويكفي شاهد على ذلك قوله: (أنا مسلم وأحب جمعَ كلمةِ المسلمين) وقوله: (أنا عربيٌ وأحب قومي والتآلف وتوحيدَ كلمتِهم).
ولأن الأمم لا تسمو إلا بفكرها.. فلم يكن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه عفوياً تُسيرُه الأحداث.. بل كان إستراتيجياً يُوجِه الأحداث ولم يكن مجردَ قائدٍ إداري أو قائدٍ عسكري.. بل كان أيضاً قائداً فكريا عرف كيف يتعامل مع الاستعمار، وعرف كيف يتعامل مع التمزق الذي كانت تعيشه الجزيرة العربية.. عرف كيف يتعامل مع الفساد الذي ألمّ بالبلاد، فكرٌ توقَدَ وهو صبيٌ في العشرينيات من العمر.. لقد استطاع الملك عبدالعزيز أن يُسخِر فكره الملهم المتقد لبناء منظومةٍ إستراتيجيةٍ لهذا الوطن لا يحيدُ عنها.. فسار عليها أبناؤه من بعد.. إستراتيجية تهدف إلى إعلاء كلمة لا إله إلا الله، وأثبت ذلك عند تأسيس الجيش السعودي عندما قال: (إن هذا الجيش أسس لإعلاء كلمة لا إله إلا الله) ثم نظرته إلى جمع الشتات فجعل من المملكة العربية السعودية قاعدة للإسلام.. فكان التوحيد السياسي، والأمني مرتبطاً بوحدة العقيدة التي هي أهم الدعامات للمنظومة الإستراتيجية. وعندما توحدت السياسة والأمن في ظل العقيدة.. ركز على استقلالية النظام ، فاتخذ منهجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مميزاً لا ينتمي إلى أي حزبٍ من الأحزاب متجاوزاً في ذلك الأنظمة.. والقوانين الوضعية، إستراتيجية ذات بعد تاريخي، بَنى من خلالها الشخصية السياسية للملكة العربية السعودية القائمة على تحديد الثوابت في العلاقات الدولية، وعدم المساس أو التدخل في الشئون الداخلية لأي بلد، أما صناعة واتخاذ القرار فقد رَشًدَ- رحمه الله- ذلك الأمر حيث بنى القرار في المملكة العربية السعودية على الشورى، والإفتاء لأنه يؤمن إيماناً كاملاً بأن الشورى.. هي التوجه لأخذ رأي الآخرين قبل اتخاذ القرار.. ولأن الإفتاء هو عرض القرار على الشرع للتثبت من مشروعيته قبل تنفيذه، وبإيجازٍ شديدٍ شفافٍ وواضح فقد كانت سياسة الملك عبدالعزيز- رحمه الله- في الداخل والخارج هي إسلاميةُ الالتزام.. عربية الأولوية والاهتمام.. إنسانية التوجه لخدمة المسلمين والبشر في كل مكان. وإذا كانت كل نفسٍ ذائقة الموت.. فإن وفاة هذا الإمام المسلم رحمه الله أثارت حزناً عميقاً في نفوس شعبه بل في نفوس العرب والمسلمين في جميع الأقطار.. بكته المملكة العربية السعودية وطناً وشعباً صغاراً وكباراً.. بكت بطلاً كافح طوال حياته في سبيل الدين، والوحدة ، والعزة، وفي سبيل أمن.. وكرامة الشعب ورغد عيشه... ولكن إن توارى تحت الثرى بطلٌ.. فقخلفه أبطالٌ وأبطال.. سعود وفيصل.. خالد وفهد رحمهم الله جميعاً. تسلموا الراية.. وتابعوا المسيرة.. حتى استقرت في يد الابن البار خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمد الله في عمره وحفظه ونصر به دينه هو وعضده وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز أطال الله عمره وألبسه ثوب الصحة والعافية.. والنائب الثاني ووزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز سليل المجد والجود رعاه الله .. وأميرنا الإنسان رجل المواقف والوفاء.. صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض أمد الله في عمره.. كلهم على الدرب سائرون.. درب والدهم الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه . حفظ الله المملكة العربية السعودية قيادة.. وشعبا.. وأرضا لتظل راية الإسلام الخضراء خفاقة شعارها التوحيد..رمزها سيفٌ يذود عطاؤها نخلٌ يجود.