يحزن كل محب لوطنه العربي وأمته الإسلامية عندما يرى هذه الدماء الزكية تسيل على الأرض، فالجار يقتل جاره، والصديق يرمي صديقه، والعائلة الواحدة تتقاتل فيما بينها. إنه حقاً منظر محزن ومؤسف لمن يرى الأمر ببصيرة البصير، راجين أن تكون العاقبة خيراً للجميع، وأن يديم علينا الأمن والأمان، وأن يصلح الأحوال إنه على كل شيء قدير.
بعد هذا المخاض الذي تعيشه الأمة العربية، لا بد أن تبرز ثمرة من جراء ذلك، فإما أن تكون ثمرة يانعة شهية، وإما أن تكون الثمرة غير صالحة لإطعام المحتاج إلى المأكل والمشرب والمأوى.
وتساءلت ومن ضمن ذلك التساؤل أن الشاب العربي يطمح إلى أن يرى في بلاده ما يراه من تطور في بلاد أخرى، فيدفعه ذلك إلى هذا المخاض العسير الذي قد لا يؤدي إلى المأمول إذا لم يكتس بثوب الحكمة، والنية الحسنة، والعمل الدؤوب، والتغيير الجذري في أنماط الإدارة والإنتاج، والأساليب المتبعة لتحقيق المراد. ولن يكون كافياً لهؤلاء الشباب الفخار بما أرادوا، ولكن الفخار سيكون فيما سيحققون من إنجاز إداري وعلمي يرفع من المستوى المعيشي المأمول.
ذكَّرني ذلك بابن بسام الأندلسي المُتوفى عام 542 هجرية، الذي عاب سلوك أبناء بلده، وأنحى باللائمة عليهم لتهافُتهم وولعهم بما لأهل المشرق، بالرغم من أنه برز منهم من بزَّ المشارقة في فنون الأدب. يقول: «إلاَّ أنَّ أهل هذا الأفق أبَوا إلا متابعة أهل المشرق حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب لحَنَوا على هذا ضماً وتلوا ذلك كتاباً محكماً، فغاظني منهم ذلك وأنِفتُ مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهِلَّة، وتصبح بحوره ثِماداً مُضمحلة».
وكان ثمرةَ جهوده كتابُ «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة».
وأقول لعل هؤلاء الشباب المتحمسين للتغيير، يغيرون ما بأنفسهم، فيخرجون لنا نتاجاً علمياً بديعاً، كما أبدع ابن بسام في إخراج كتابه الشهير «الذخيرة»، وإن كان الأدب مفخرة ذلك العصر، فإن مفخرة هذا العصر هو الاختراع والبحث، والمساهمة في التقنية الحديثة والرفع من كفاءة الفرد الإدارية والإنتاجية.
إن الغيرة المحمودة والمجاراة والمنافسة في الوقت الحاضر تكمن في ذلك التقدم التقني الملفت الذي يعيشه العالم، دون مساهمة تذكر من الأمة العربية، مع وجود العقول القادرة، وغير المنظمة والمؤطرة، فيستغل البعض ذكاءه الفطري، في الوصول إلى مبتغاه عن طريق الذكاء الاجتماعي، الذي أصبح مهنياً على النمط الإداري المعتاد في العالم العربي، فكان التنافس فيه موازياً للتنافس العلمي في المجال العلمي والإبداعي، وأصبح الوصول إلى الغاية مرتبطاً بمقدار الكفاءة في الذكاء الاجتماعي وقبل ذلك لتوفيق الله سبحانه وتعالى.
إن هذا الشباب المتحمس يحتاج إلى من يأخذ بيده إلى الطريق الصحيح لشحن طاقاته، والطريق الصحيح هو تهيئة البيئة العلمية للإبداع والإنتاج، وليس إضاعة الجهد والوقت في الجدل والتنظير الذي لا طائل منه، والذي لن يؤدي إلى نتائج تذكر.
لم يعد للتنظير مكان في عالم اليوم، وأصبح الناس في حاجة إلى المأكل، والمشرب، والمأوى، والخدمات الصحية، وغيرها من المتطلبات اليومية، فهل حقاً تجاوز الزمن التمحور حول المناظرات والجدل غير المجدي، والسير بالعربة في الاتجاه الصحيح للعمل في ميدان الخدمات للشعوب المحتاجة إليها؟.
لقد عفا الزمن على المُنظّرين والجدليين الذين نراهم يتطارحون الآراء على شاشات الفضائيات لينزلق الشباب في أتون تلك الأفكار المتناقضة، فتتكون جماعات تتعامل فيما بينها حول وهم جدلي بيزنطي، فتسيل الدماء وتهدم البيوت ويتوقف الإنتاج، ويتضور الناس جوعاً، والجدليون مستمرون في تنظيرهم البيزنطي غير المجدي.
إن أمتنا في حاجة إلى العمل والإنتاج تحت أي مسمى، بما لا يخالف شرع الله، فهل نحن فاعلون؟.