يدرك الاقتصاديون قبل غيرهم أن تطوير أي قطاع اقتصادي يجب أن يخضع لدراسات تأخذ بعين الاعتبار النظر إلى المستقبل، أو ما يُعرف في أبجديات علم الاقتصاد بالأجل الطويل الذي يعتبر محـكًّا ومعياراً أساسياً لنجاح أي سياسة اقتصادية. ولعل بوادر تطوير قطاع السياحـة الداخلية في الاقتصاد السعودي قد بدأت بقرار إنشاء الهيئة العامة للسياحة، الذي جاء إدراكاً منها بأهمية تفعيل الأنشطة الاقتصادية كافة لمواجهة متطلبات المرحـلة التنموية الحـالية التي تمر بها المملكة العربية السعودية واستحـقاقات مرحـلة العولمة التي يمر بها العالم برمته. وعلى الرغم من أن إنشاء الهيئة العامة للسياحـة والآثار قد شكَّل إطاراً مؤسسياً لقطاع السياحـة في الاقتصاد السعودي إلاَّ أنه لا يمكن إغفال أن هذا القطاع الاقتصادي الحـيوي كان حـاضراً منذ زمن طويل، ولم يكن ينقصه إلاّ هذا التأطير المؤسسي بعد أن كان يعاني حـالة تشتت، وإن كان ذلك التشتت لم يمنعه من أن يكون له إنجاز تراكمي فاعل كنشاط اقتصادي استحـوذ على استثمارات مهمة واستقطب اهتمام نخبة رائدة من رجال الأعمال. ولعل الإحـصاءات الأخيرة التي أفصحـت عنها الهيئة العامة للسياحـة والآثار تؤكد هذه الحـقيقة؛ إذ أصبح لهذا القطاع دورٌ مهمٌّ في تكوين هيكل الاقتصاد الوطني باعتباره المكوِّن الثالث لإجمالي الناتج المحـلي. وقد أحـسنت الهيئة العامة للسياحـة والآثار في تبني إصدار الخطة الوطنية للسياحـة، وهي نظرة استراتيجية مستقبلية ترسم معالم هذا القطاع، وتخلق مناخاً مواتياً للاستثمار فيه. وقطاع السياحـة من القطاعات الواعدة في المستقبل؛ ذلك لأن النظرة المستقبلية لقطاع السياحـة الداخلية يجب أن تقوم على بناء فعاليات سياحـية يمكنها أن تشكل بديلاً قوياً للسياحـة الخارجية من ناحـية، وخلق وتطوير مفهوم جديد وخاص للسياحـة الداخلية يستوعب خصوصيات المجتمع ويبلورها في خدمات سياحـية تتعامل بأدوات السياحـة الحـديثة ومقوماتها من ناحـية أخرى. هذا التنوع في التفكير الاستراتيجي السياحـي يفتح آفاقاً رحـبة للاستثمار في هذا القطاع، وهذا ما يجعل منه صناعة من الصناعات الحـديثة التي يمكنها أن تستفيد من مميزات الإنتاج الكبير الحـجم من ناحـية، ومن مميزات الترابط الأمامي والخلفي المعروفة في النظرية الاقتصادية بحـكم أن صناعة السياحـة يمكنها أن ترتبط بقطاعات صناعية أخرى في الاقتصاد. بل إن من أهم فوائد النشاطلسياحـي أنه يزيد الطلب على العديد من السلع والخدمات المنتجة محـلياً. ولعل هذه ميزة يجب أخذها بعين الاعتبار عند دراسة الجدوى الاقتصادية للاستثمار في المشاريع السياحـية من حـيث ما يمكن أن تخلق من قيمة مضافة إلى الاقتصاد الكلي. هذا البُعد الاقتصادي لمستقبل الاستثمار في القطاع السياحـي يجب أن يكون ركيزة أساسية في تسويق الاستثمار في هذا القطاع، والتأكيد على ذلك في استراتيجية العمل السياحـي والحـرص على تجاوز بعض التحـفظات التي قد يراها البعض بأنها احـتياط من باب سد الذرائع أمام أي تغير قد يؤثر في بعض الجوانب الاجتماعية أو العادات السائدة في المجتمع، التي قد تصل إلى درجة الضغط. مهمة الهيئة العامة للسياحـة والآثار صعبة، ولكنها ليست مستحـيلة. والأمل معقود عليها لتفعيل دور قطاع السياحـة في الاقتصاد الوطني. ولعل ما يريح المراقب الاقتصادي في مستقبل هذا القطاع هو نهج وتفكير الهيئة العامة للسياحـة والآثار التي تعاملت مع هذا الملف الاقتصادي الحـيوي برؤية استراتيجية تأخذ الحـاضر بعين الاعتبار وفق نظرة مستقبلية ترتكز على أسس علمية. وأي عمل يستند إلى هذه المقومات ستكون فرص نجاحـه كبيرة، وسيكون قادراً على استقطاب اهتمام رجال المال والأعمال الذين يبحـثون عن فرص بكر في اقتصاد يزداد انفتاحـاً على العالم، ويقدم نفسه ملاذاً آمناً للاستثمار، وسيتيح فرصاً استثمارية منافسة في مناخ يتعامل مع العولمة بوصفها واقعاً اقتصادياً.
* رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض