|
الجزيرة - قبلان محمد الحزيمي
الحديث عن الزمن الماضي لا يمل وذو شجون وخاصة حينما نعود إلى تلك الحقبة الزمنية التي صارع فيها أبناء هذا الوطن شبح الجهل المطبق والظلام الدامس والحياة القاسية قبل توحيدها على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- قبل 81 عاماً حيث حارب الثالوث الخطير في حياة الأمم وهي الفقر والجهل والمرض بعد أن تحقق الأمن والاستقرار لجميع أنحاء البلاد ولله الحمد حتى أصبحت المملكة اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه- تشهد إنجازات جليلة تميزت بالشمولية والتكامل في خدمة الوطن والمواطن وهو امتداد لما قام به ملوك هذه البلاد الطاهرة عليهم رحمة الله وهم الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد.
ولكبار السن ذكرياتهم الجميلة عن تلك الحقبة الزمنية فقد عاشوا تجارب الحياة المليئة بالكفاح والتضحية في وقت شحت فيه الموارد الاقتصادية وصعب فيه السفر والترحال، فالذكريات الخالدة مع كبار السن لها طعم آخر فهم مدرسة نتعلم منها ويملكون تاريخاً عايشوه بأنفسهم فيجب أن يحفظ وعلى الجيل الحالي الاستفادة والتعلم منه.
وبمناسبة الذكرى الحادية والثمانين لتوحيد هذه البلاد نبحر مع أبناء ذلك الجيل المحضوض الذي ولد وعاش مع ولادة هذه الدولة الفتية بعد توحيدها من مؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-.
من حال إلى حال
لقاؤنا الأول مع شيخ تجاوز المائة عام يحدثنا بابتسامة عريضة وهو يستعرض حياته وحياة جيله البسيطة بمكوناتها وأدواتها المحلية فيقول الشيخ محمد بن سعيد الأحمد الدوسري: يا بني كنا نعيش في خوف ونخشى الفقر والمرض ولا نملك ولا نأكل سوى ما ننتجه من عمل أيدينا في الفلاحة أو تربية المواشي القليلة جداً أو من الأعمال الحرفية الأخرى ولم نكن نعرف من الأطعمة الحالية شيئاً، فقد كنا نعتمد في معاشنا على ثلاثة أطعمة قل أن تجتمع في بيت واحد وهي التمر والبر واللبن وكنا نطبخ بإيقاد النار بالحطب ولم يكن لدينا ثلاجات أو برادات وإن وجد لحم فهو يخزن بالتجفيف أو يؤكل طرياً في حينه فقط، وحين يرفع الجزار (البيرق الخاص به) يعلم الجميع أنه سيذبح عند الغد بعيراً فيقبل عليه من لديه شيء من المال للشراء، وكانت الأسرة التي تملك منزلاً طينياً كأنها تملك اليوم عمارة مسلحة وكان للعشة المبنية من الخشب والخوص والخيمة المصنوعة من الوبر دور كبير في السكن في ذلك الوقت رغم التقلبات الجوية المختلفة، أما اليوم ولله الحمد وبفضل الله ثم بدعم حكومتنا الرشيدة فقد حلت محلها الفلل والعمائر المسلحة والقصور الفاخرة نسأل الله أن يديم علينا هذه النعمة وأن يطيل في عمر ولاة أمرنا، وكنا نداوي مرضانا بالعلاج الشعبي والأعشاب أو بالحجامة أو الكي ونجبر كسيرنا بسعف النخيل والجبارة العربية وكان الجميع يهب في مساعدته في تقديم الغذاء الجيد له ولأسرته حتى يجبر كسره في تكاتف اجتماعي فريد.
وكان لكل حي في بعض المدن بوابات تغلق ليلاً وتفتح نهاراً نتيجة الخوف ويتم الاستئثار -قصاصة الأثر- حول تلك الأحياء حتى يتم التأكد من عدم وجود حيافة أو أعداء حاولوا دخول تلك المدن والأحياء.
وعن سبل المواصلات فيقول ضاحكاً: أما المسافات القريبة فعلى السالمات -ويقصد القدمين- وإن طالت المسافة فلا بد من استخدام الإبل فهي على الأقل تحمل الماء والمتاع ويشير إلى أنهم كانوا يقطعون المسافة من وادي الدواسر إلى الرياض خلال 12 أو 15 يوماً مع سير معظم الليل مع النهار.
وعن زيارته لأول مرة للرياض فقال: حين بلغت الرشد وكانت الرياض بسيطة في كل شيء في طرقها ومبانيها وبواباتها إلا أن التواصل الاجتماعي بين الناس كان قوياً جداً وكان عدد السكان قليلا مقارنة بالزمن الحالي.. ويضيف: وقد عملت هناك حرفياً ثم التحقت بالجيش السعودي بالرياض توجهنا بعدها لمكة المكرمة وكنا نستعرض بالسلاح في الطائف ثم انتقلت لمدينة ضبا مع الهجانة التابعين للجيش إلى أن عدت لمنطقتي وادي الدواسر وعملت في الزراعة وكانت المياه حينذاك وافرة إلا أن سبل استخراجها من الآبار صعبة حيث الإمكانات البسيطة على المعاويد من الإبل أو بعض الحيوانات الأخرى.
ومما يذكره ضيفنا زيارة الملك سعود -رحمه الله- لبعض المناطق ومنها وادي الدواسر عام 1373هـ حيث لا يزال الأهالي يؤرخون بها التاريخ فلم يكن ذلك العام عاماً عادياً بالنسبة لنا فقد كان لقاؤنا مع جلالة الملك سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- والذي قام بزيارة المناطق لتفقد أحوال رعيته واحتفى به أبناء تلك المناطق احتفاء كبيراً نابعاً من حبهم وولائهم لقيادتهم وقد أثمرت تلك الزيارة الكريمة عن توزيع الأموال للصغير والكبير وافتتاح المدارس والمستوصفات ووزعت المكائن الزراعية وأمر جلالته (بذراية) للزرع (البر) وأمر بعدد من سيارات النقل لتسيير رحلات الحج للراغبين في أداء الفريضة إلى مكة المكرمة.
ويذكر ضيفنا (سنة الجراد) كما يسميها وهي عام هجم فيه الجراد على بعض المزارع فأكلناه من شدة الجوع قبل أن يأكل مزارعنا حيث اصطدناه بكميات كبيرة وبقينا ثلاثة أيام نأكل منه بمتعة شديدة فقد قيل: (إذا حضر الجراد فأنثر الدواء) ومن كثرة ما تم صيده من الجراد كنا نعطي بقاياه لبعض البهائم التي نسقي عليها مزارعنا.
وأخيراً يقول: إنكم جيل محظوظ فقد عم الخير والنماء كل أقطار المملكة ولم تعيشوا تلك الأيام القاسية برغم أنها كانت بالنسبة لنا جميلة بذكرياتها فنسأل الله أن يرحم موحد هذه البلاد وأبنائه البررة الذين ساروا على نهجه، الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد وأن يحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وسمو ولي عهده وسمو النائب الثاني وحكومتهم الرشيدة وأن يديم على هذه البلاد أمنها وعزها واستقرارها.
التعليم أمس واليوم
وعن المجال التربوي والتعليمي كان لنا لقاء آخر مع الشيخ هذلول بن جمعان آل هذلول الشرافاء وهو من الرجال الذين عاصروا مراحل تطور التعليم في مملكتنا الغالية حيث قال: يا بني إن الفارق بين بدايات التعليم بالأمس وتعليم اليوم هو بحجم الفترة الزمنية الماضية وما صاحبها من دعم سخي وتطوير شامل من حكومتنا الرشيدة أعزها الله وحفظها وقادتها من كل سوء، لقد كانت الجزيرة العربية تعيش في ظلام دامس وجهل كبير حيث كانت أرجاء مملكتنا الغالية ذات ظروف متكافئة تقريباً فلم يكن هناك تعليم يذكر سوى ما يقام من حلقات ودروس في المساجد والكتاتيب، كنا نتعلم فيها القرآن الكريم وبعض العلوم الشرعية وشيء من مبادئ القراءة والكتابة ويقوم بدور المعلم في هذه الحلق «مطوع» المسجد. وكان يقدم له الأهالي الهبات المتمثلة في شيء من القوت كالتمر والبر واللبن والقهوة أو شيء من الكساء أو المال اليسير. وعند صرام النخيل يعطى (المطوع) ثمار نخلة كاملة وعند ختم القرآن يعطى عن كل جزء من كتاب الله ريالاً واحداً.
وكان التعليم في تلك الحقبة الزمنية يعتمد على الحفظ والتلقين ولم يكن لدينا أوراق أو كتب أو أقلام أو أي وسائل علمية سوى لوح من الخشب يكتب عليه بالفحم ويغسل بالماء عند إتقان ما كتب عليه وهكذا، حتى تم توحيد هذه البلاد المباركة على يدي الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته- حيث بدأ التعليم النظامي وبشكل بسيط في بداياته حيث كنا ندرس على الأرض والتراب ثم تطور الأمر إلى أن قمنا بالدراسة على البسط والفرش ثم جاء دور الكراسي والماصات المشتركة لطالبين فأكثر وكانت تصنع في الغالب محلياً وكانت طاولة المعلم عبارة عن قطعة من جذع نخلة واليوم لكل طالب طاولة وكرسي مستقل وعلى أفضل المواصفات والصناعات الحديثة ولله الحمد وانتشرت وسائل الإيضاح مثل الخرائط والمصورات التعليمية والمختبرات ووسائل التعليم الحديثة بفضل الله ثم الدعم السخي من حكومتنا الرشيدة.
وبالأمس كان المعلم كالقاضي برغم تقارب السن أحياناً بين المعلمين والطلاب وتجد الطلاب يكيلون فيض الاحترام والتقدير على معلميهم، وبرغم ضعف تأهيل المعلمين في السابق لكنهم أكثر إنتاجية وأثراً في طلابهم وكان المعلم السابق ليس له هم سوى عمله يمارسه داخل المدرسة وخارجها حيث الدور التربوي للمعلم. وكان طلاب الأمس على قلة الإمكانيات على قدر من الموهبة وأصحاب جلد وكانوا سريعي الحفظ لأن أفكارهم خالية من ملهيات الحياة، وكان الطالب يتعلم القراءة والكتابة ويجيد الخط والتعبير والإملاء في الصفوف الأولية من المرحلة الابتدائية واليوم ولله الحمد المخلص من المعلمين والمتميز من الطلاب حققوا تفوقاً لم يبلغه من سبقهم لتوفر الإمكانيات والتشجيع والدعم الكبير من حكومتنا الرشيدة.
أما المباني السابقة فيقول الشيخ آل هذلول: كانت طينية وغرفا صغيرة خالية من الملاعب ووسائل الترفيه وبأقل الأمطار يتم تعطيل الدراسة خشية من سقوطها واليوم ولله الحمد صروح تربوية عملاقة قل أن تجد مثيلا لها في بلاد العالم وذلك إدراكاً من حكومتنا الرشيدة الحكيمة بأهمية العلم في بناء الأمم.
وما يذكره ضيفنا هو أنه كان الطلاب يذهبون من وادي الدواسر إلى الرياض ويقطعون أكثر من 1300 كيلومتر ذهاباً وعودة من أجل (التصوير) والحصول على صورة شخصية تلصق على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية برغم أنه لم يكن هناك طرق معبدة أو وسائل مواصلات حديثة.
ومما يذكره أيضاً ضيفنا أنه قام بلقاء الملك سعود -يرحمه الله- بمدينة الرياض مع وفد من قبيلته للسلام عليه وتهنئته بسلامة الوصول بعد عودته من رحلة خارج المملكة. ويشير ضيفنا إلى أن جلالته كان كريماً يقدر رؤساء وشيوخ القبائل كثيراً ويقدم لهم الشرهات ويكرم ضيافتهم. وهذا ما كان عليه والده الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- ثم جميع أبنائه الملوك من بعده، سائلاً الله أن يحفظ بلادنا وقادتها وشعبها وأن يديم على الجميع لباس العز والأمن والخير وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني وجميع أبناء الأسرة المالكة الكريمة لكل خير.
ترحال البادية
وعن حياة البادية قديماً يحدثنا الشيخ محمد بن هذلول آل أبو سباع الدوسري حيث قال: كانت حياة أبناء البادية سابقاً فيها شظف العيش، مليئة بالمتاعب والمشقة، حيث الترحال المستمر للبحث عن مواطن الكلأ وموارد المياه والتي تعتبر همهم الأول في العصور القديمة عبر الصحاري الواسعة والصراعات الدامية بين القبائل على موارد المياه فكانت كل قبيلة تعرف مواردها وتذود دونها خاصة في فصل الصيف حيث الحرارة الشديدة وقد يتحيز أفراد من القبيلة أو بعض أفخاذها على بعض الآبار دون أبناء القبيلة الآخرين حسب قوة أفراد تلك القبائل وضعفهم وكثرة عددهم وماشيتهم، حتى وحد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- المملكة فعم الخير ووصلت أيادي البذل والعطاء والتنمية الوطنية جميع أبناء الشعب ووصلت الخدمات الجليلة من يسكنون في عمق الصحراء فحفرت الآبار ذات المياه العذبة في كل ناحية ووفرت الرعاية الصحية للمواطنين وفتحت العيادات البيطرية لعلاج المواشي ودعمت الأعلاف في هذا العصر الزاهر فارتفعت أسعار المواشي وخاصة الإبل وأصبحت من أهم الموارد الاقتصادية لبلادنا، وفي الزمن الماضي كان الترحال نحو مواطن الكلأ هو سمة أبناء البادية واليوم تم استيطان معظمهم ووصل أبناؤهم لأعلى مراحل التعليم وأصبحت البداوة وتملك المواشي بالنسبة لهم هو من أبواب الأصالة والعودة إلى الماضي المجيد.
ويضيف: يا بني كانت لدينا عادات وتقاليد نحن أبناء البادية من أهمها المحافظة على الشيم العربية الأصيلة وإكرام الضيف وتقدير الجار وإغاثة الجائع ومساعدة الفقير، وكان هناك تكاتف اجتماعي بين الجميع وحرص على مساعدة كل من يحتاج للمساعدة أو فزعة سواء من الجيران أو الأقارب فكان أبناء الجيران يخدمون جارهم ويساعدونه في تربية مواشيه إذا لم يكن له أبناء أو كانوا غائبين لأي سبب من الأسباب كأن يذهبوا لشراء الزاد (التمر والبر) من المدن المجاورة حيث يمضون عدة أسابيع حتى يعودوا لأهلهم مستخدمين في ذلك الهجن من الإبل كوسيلة مواصلات، وكان كبير القوم له احترامه وأمره ونهيه على الجميع، كما أن الصلاة والقيام بالواجبات الدينية أمر يتعلمه الطفل منذ نعومة أظفاره فتجده وعمره لم يتجاوز العاشرة إذا حل وقت الصلاة وهو يرعى مواشي والده يقوم بوضع خط على الأرض ويؤدي صلاته دون أن يأمره أحد أو يوجهه إلى ذلك. ولم يكن هناك مستشفيات أو أطباء وكان (الكي) هو العلاج الدارج في علاج المرضى من البشر أو من المواشي.
وختم حديثه لـ(الجزيرة) بأن رفع يديه بالدعاء بأن يحفظ حكومتنا الرشيدة ويصلح بطانتهم وأن يعزهم ولا يعز عليهم وأن يديم على بلادنا نعمتي الأمن والرخاء في ظل قيادتنا الرشيدة الحكيمة العادلة.