- أحار اليوم وأنا في فجيعة فَقْد أقرب الأحباب..
- ضاعت خواطري.. وتشتتت أفكاري وأنا أحاول أن أهدِّئ من لوعتي لهذا الفراق..
- حيّ.. ميت.. كيف ذلك؟!
- ميت بالجسد بعيد عنا.. فارقنا، وهذا قضاء الله لن يرده أحد منا، ولكنه حيّ لا يزال، وسوف يبقى بيننا ذكرى عطرة.. كما كان معنا وجوداً حاضراً.
- لِمَ هذا الأسى الدامس يحوطني؟ لِمَ هذا الألم القاسي الذي يلم بي!!
- لِمَ نحن أهله جميعاً وأحبابه كافة في مأتم حزين؟ لِمَ أنا من أكثرِهم حزناً عميقاً، لا أكاد أهدأ منه أو أفارق؟
ذلك كله..
لأن فقيدنا الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله التويجري - رحمه الله - ليس إنساناً بالمعنى المحمود الذي يفهمه الجميع، لكنه إنسان بكامل الصفات الإنسانية الصافية، النقية الخالصة، وكأن كل المكارم والمحامد، وكأن كل القيم والفضائل كانت أمام جنازته تقول: قبري هنا معك.. فقد كنتَ - يا أبا يزيد - حقاً حياتي.. كنتَ فعلي ونفاذي، واليوم ليس لي بعدك مَنْ يحققني.
***
المروءة.. به كانت عديدة الصور، كثيرة المآثر، حقيقية عملية راسخة، ليست تكلفاً ولا ادعاء.. عميقة في كل سلوكه، ظاهرة الدلالة في كل تصرفاته، خالصة لذات المروءة، ما تخلى بها أحد مثل عمقها فيه، ولا أداها أحد بمثل شمولها كل أعماله.. رحم الله المروءة المتناهية من بعده.
***
الكرم.. ملازم للمروءة، فهو كرم معنوي، وكرم مادي، في كل صور المشاعر والتعبير العملي النافذ عنها.. وكم كان - رحمه الله - فيضاً متدفقاً من الكرم، الكرم الأصيل، ليس لطلب ثناء، أو قصد رجاء، لكنه كرم فطري مبثوث في كل وقفاته.. مختلط حي بكلماته وتحياته. كان - يرحمه الله - يُؤْثر الجميع على نفسه، يُشعر الغريب حتى كأنه القريب، ويضفي من حسن الترحيب والاهتمام بمن لا يعرفه كمن هو من أهله، أبكي فيه الرقة الرقيقة، والحنان الدافئ.
ما كان أعظم حنانك وأنت بين أبنائي وأولادك، ومع الكبار والصغار من أهلي وهم أهلك.. قلب طيب بحق.. فؤاد رقيق بصدق، نفس صافية شفافة بلا ريب.. لا تزايد مصطنع.. ولا رقة للقلب في اللقاء والكلام والعمل تدَّعى، فلقد وهبك الله من نبيل العواطف ولين الجانب أضعاف أضعاف ما عند الناس جميعاً.. حناناً وعطفاً ورقة، وكأنك ألف قلب حنون في قلب واحد.
***
رحمك الله يا أبا يزيد.. رحمك الله قدر اهتمامك بأمور الناس، ورحمتك بالمحتاجين، ووقوفك سنداً للمعوزين منذ كنت فتى وطوال عمرك، حتى وأنت على سريرك الأبيض كنت أبيض النفس.. أبيض القلب. كثيرة قيمك السامية، شاملة سماتك الصادقة المتأصلة.. عميقة مواقفك النبيلة مع الأهل والأحباب، ومع الرفاق والأصدقاء في العمل والحياة، رحمك الله قدر طهارة داخلك، ونظافة لسانك، وسماحة يدك.. جزاؤك الجنة.. لأنك حققت وصاية الله على أكمل وجه في البر بالوالدين، والرفق بالأهل والأرحام، ومحبة الناس جميعاً.. كان هذا دأبك.. وكان هذا حالك.. يرحمك الله.
إن أنس لا أنسى عنك كيف كُنت تُقبِّلُ عند اللقاء قدم أمك، ويديها، وكيف كنت حيياً أمام والدك، حتى أنك لا ترفع في الحديث صوتك، ولا مرة في الحوار معه كانت منك مقاطعة لحديثه، أدب جم مع كل الناس، وبالأخص كبارهم من أسرتك.
ولن يغيب عن بالي ما عشت كيف كنت شديد الحب والاعتزاز والتقدير لعمك شيخنا عبدالعزيز التويجري - رحمه الله -.. أصالة متأصلة فيك، وكرم عنصره فيك متجذر، ومحتد نبيل راسخ.
***
لقد دفعتك فضائلك النفسية، ومكارمك الخلقية، ولم تبعدك أحوالك العملية عن تحقيق كل ما يفيد البشرية أجلَّ الفائدة، فهذه الوحدة الطبية الخاصة بمرض الكبد، التي هي الأولى بك، تعالج الذين يعانون ذلك دون حد للعلاج، ودون تكاليف للشفاء، فقد كنت صاحب الكبد الحساس، الكبد الفواح بالرفق والحنان، فبادرت بإنشائها تنفيذاً عملياً لطيب مشاعرك، وتحقيقاً لمخلص مساعداتك، حين أدركت مدى الحاجة إليها بعد تفشي هذا الداء، ليس هذا للمرضى والمعتلين فحسب، بل كنت مداوماً على الاطمئنان على كل أصحابك، والتأكد من شفاء زوارك، فكنت تصر- كما روى لي أكثر من صديق- على إجراء كشف طبي للاطمئنان على تمام صحتهم، وتأخذهم إلى طبيب متخصص من أساتذتك - إذا لزم الأمر- حين كنت في دراستك الطبية خارج المملكة، وتتكفل أنت بكل نفقات علاجهم مهما بلغ قدرها، وداومت على حرصك على صحة الناس حتى وأنت في مرضك؛ إذ شاهدتك ترتب مواعيد عند الأطباء لمعارفك بمبادرة كريمة منك، وهكذا كنت دائم الاهتمام بكل من تعرف، دائم السؤال عن أحوال الناس.. صادق العون لكل محتاج.. سريع العلاج لكل مريض حتى اللحظات الأخيرة في حياتك.. يا من كنت حبيباً بحق لكل الناس، جعل الله الفردوس موئلك.
***
وحين زادت الهموم على الناس، وحُرمت الكثير من النوم.. لم تسكت.. ولم تنم أنت حتى أنشأت (أول وحدة لعلاج اضطراب النوم) لتعيد للناس راحتهم، وتبقي لهم جميل نومهم، وليس لك من جزاء يقابل ذلك إلا أنك الآن نائم في رحمة الله، هادئ سعيد في جنانه.
***
كنت تسأل لفظاً.. وكنت تبحث ثقافة، وتطلع قراءة، وها هي مكتبتك الزاخرة، وأركانها العامرة.. تبكيك، وصوت الكلام فيها خافت حزين يرثيك، وهي كأنها تبكي لأنها لن يأتيها جديد من بعدك، ولا زيادة في الرصيد بعد فقدك.
تحزن الكتب على أصحابها كما يحزن الناس.. تفقد الثقافة الكثير من عطائها بفقد أحد روادها، ومَن هناك رحبُ الثقافة مثلك!! لقد كنت بحق دفاق الفكر.. فلسفي النظرة.. منطقي القول.. حاسم الرأي.. بعيد النظر.
***
هذا المرض الذي رافقك - بثوابه ورحمة ربي لك به - أربعة عشر عاماً زادك ثقة بالله، وعمقاً في الإيمان، ورصيداً متزايداً من العمل والثقافة، فقد كنت محافظاً على كل القيم العليا، وكنت رغم شدة المرض تتابع أخبار الدنيا عامة، وبلادنا الغالية خاصة.. كنت وأنت على سريرك تمسك بكتابك تقرأ، أو بحاسبك تطلع، أو بقلمك تكتب وتنشئ.. يسألك زائرك عن صحتك فتسأله أنت عن صحته، وكيف صحة بيته وأهله، متذكراً كل واحد منهم، مستفسراً للاطمئنان على من كان به مرض من قبل فيهم، فكيف بالله ننساك؟
***
هل هي مقالاتك التي تحمل أفكارك، وتسطر كريم صفاتك، وعميق فكرك شاهد ناطق بكل ما فيك من عظيم المثل، وجميل القيم، وناصح القول، وسديد الرأي، لم تتأثر في كل ذلك بالمرض، بل زادك المرض يقيناً، وضاعف عطاءك اتساعاً.
***
فقيدنا الغالي أبا يزيد.. لو أن كل المراثي الشعرية والتعازي النثرية اجتمعت لما كانت كفاية في وصف ما تركت من قيم ومثل، وعمل وقول، وحب وصدق، فالمرء حي بأفعاله.. باق بمواقفه وأعماله.. لا يموت ما دامت الذكرى له حية بين الناس وعند أهله عن مكرماته، ولقد كنت دائماً منذ عرفتك.. الرجل بحق، الصهر النقي النبيل بجد.. الصديق الوفي المخلص دون أدنى شك، وما عرفت من شابهك في ذلك، وليت الكل يحتذي بك في دائم تضحياتك، وسريع مبادراتك، وتعدد مشاركاتك بالمشاعر الصادقة والعمل النافع، والنجدة السريعة.
يا فقيدي الغالي سوف أظل أذكرك باكياً.. سأظل لك داعياً بقدر ما كنت فيه، وما عشت عليه من الحب، والخير، والمروءة، والجود، والصدق والعطاء، وحب الناس، والاهتمام بالجميع.
***
لك الجنة داراً.. لك الرضوان من الله لقاءً.. لك في حياتي، وقلبي، وفكري، وبيتي وأهلي بقاءً، وليرفع أولادك رؤوسهم تباهياً بك.. وعزاً بقدرك.. وستظل لهم مثالاً باقياً يُحتذى، ونموذجاً سامياً يتبع.
صبراً.. يا والدنا، ويا أم يزيد.. ويا كل أهلينا.. ولنحتسب وفاته ذخراً خالداً عند الله، فقد ارتقى فقيدنا الغالي برضوان الله إلى ما هو أفضل من عالمنا.. الجنة مثواه؛ لأن الخير، والفضل، والإيمان كانت كلها فحواه.
ولنكثر من الدعاء له.. ليفرح به عند ربه.. كما كان هو يُفرِح الجميع بخيره وطيب تعامله، ولطف معشره.
و{إنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.