أينما نتجه ونحن هنا في المملكة العربية السعودية نجد المدى أمامنا مفتوحاً على كل اتجاه، لأننا بما تفضل الله به علينا، نعيش في أرضٍ تتجه إليها الأرض كلها، وفي رحابٍ تتوق إليها الرحاب كلها، حينما أتجه إلى القبلة استشعر مئات الملايين من المسلمين يتجهون إليها، ويولون وجوههم شطر المسجد الحرام كما نولي وجوهنا شطره، شعور أستمتع به كلما استقيظ في وجداني، وكثيراً ما يستيقظ، وهو شعور يكبر ويتنامى حينما أكون خارج هذا الوطن، في أي مكان على وجه الأرض، لأن الصلوات الخمس توقظه وتحركه وتزيده في وجدان تألقاً وحضوراً.
(خارطة المدى) هي البلاد التي تختصر المدى في مسجدها الحرام ومشاعره المقدسة، في كعبتها التي تهفو إليها القلوب، وتشتاق إليها النفوس، لأنها (القبلة) وما من معلم على وجه الأرض يستطيع مهما كانت أهميته أن يحظى بلقب (القبلة) المفعم بهذه المعاني السامية من الصلاة والذكر والدعاء وتلاوة القرآن الكريم.
حتى (سوق عكاظ) بالرَّغم من أهميته في تاريخنا الشعري العربي وبالرَّغم من سعينا إلى إحياءِ ذكراه بكلِّ ما نستطيع من الزَّخْم الإعلامي، يظلُّ صورةً باهتةً أمام صورة (الكعبة) التي تختصر المدى الروحي كله بين جوانحها المشرقة بالإيمان.
حتى (الجنادرية) بالرغم من كونها أصبحت مهرجاناً عربي السمات عالميَّ الصِّيت، إلا أنها تظلُّ صورة صغيرة جداً، أمام تلك الصورة العظيمة التي يرسمها الألقُ الإيماني للمسجد الحرام والمسجد النبوي ومشاعر الحج ومواقع الخير، ومصادر النور في غار حراء وغار ثورٍ وغيرهما من المعالم التي تتواضع أمامها كلُّ المعالم.
ما زلت أذكر علامات الاعتزاز بهذه المعاني الروحية التي بدت أمامي ظاهرة على وجه ذلك الرَّجُل النيوزيلندي الذي منّّ الله عليه بالإسلام بعد كفره وبالإصلاح والسعي إليه بعد جولات قاتمة من الإفساد قام بها حينما كان مروجاً للمخدرات في أوروبا وشبه القارة الهندية، كان في أوج شعوره بعزة المسلم وعظمة الإسلام الذي هداه الله إليه وهو يقول لي: حينما نطقت بالشهادتين شعرت في اللحظة ذاتها أنني أصبحت من أهل مكة والمدينة، وأحسست أن الرياض هي عاصمتي الحقيقية التي أصبحت أنتمي إلى بلادها روحاً وشعوراً وعاطفة، ثم قال: ما كنت أتوقع أن أعيش هذه المشاعر الفياضة بالسعادة والعزة بعد أن أصبحت مسلماً، إن الأرض كلها أصبحت لي مسجداً وطهوراً وإذا رأيت فرداً أو جماعة يصلون في أي مكان من الدنيا نظرت إلى جهة القبلة المتجهين إليها، وكأنني أرى الكعبة المشرفة رأي العين، كان في ذلك الوقت طالباً في كلية الشريعة في الرياض، وكنت طالباً في كلية اللغة العربية، ولقد كنت استمتع بحديثه باللغة العربية الفصحى وهو يرتضخ معها لكنة أعجميةً خفيفة تزيدها على لسانه طرافة وجمالاً.
إنه الشعور الأعمق الذي يشعر به كل مسلمٍ في كل زمانٍ ومكان. أليست بلاد الحرمين -فيظل هذا الشعور- هي خارطة المدى التي لا تحدها الحدود، وكيف تحدها حدود على وجه الأرض وهي -كما صوَّرها أحد أدباء فارس- كقرص الشمس الذي تشكلُ قوافلُ الحجاج والمعتمرين أشعته الصافية التي لا تنقطع انطلاقاً منه ورجوعاً إليه.
اللهم أدم على هذه البلاد الطاهرة نعمة الإيمان والأمن والاستقرار يا رب العالمين.
إشارة:
وطني الذي احتضن الهدى
وبنى عليه المسجدا