كتبت منذ فترة مادحاً أداء المرأة في مجالات العمل الحكومي والخاص و تقلدها لمناصب قيادية عدة لعل أبرزها في القطاع العام منصب نائب وزير بخلاف عددكبير من المناصب الأخرى في الجامعات والمستشفيات وغيرها، وعلى مستوى القطاع الخاص، في الغرف التجارية أو في المشاريع الخاصة.
وقد ذكرت حينها أن عمل المرأة ومشاركتها الرجل في تولي مناصب قيادية سواءً في قطاعات عامة أو خاصة لن يتوقف عند ما تم حتى الآن بل المعطيات تشير إلى استمراره وتزايده وهو بلا شك مؤشر إيجابي لعدة أسباب.
مشاركة المرأة في الأعمال السياسية بشكل عام كمبدأ يُعتبر حقا مشروعا لها كفلته الشريعة الإسلامية، وهو لا يتوقف عند مشاركتها في البيعة أو المبايعة أو التصويت فقط إنما حتى في الترشح لمناصب قيادية وتولي قيادة أقسام أو إدارات أو قطاعات أو مؤسسات أو حتى وزارات، الإشكالية أننا في معظم الأحيان نقصر العمل السياسي على الترشيح والترشح في البلديات وفي المجالس الموجودة في البلد ونحو ذلك، في حين أن الرؤية الإسلامية للعمل السياسي أشمل وأوسع وأعمق من هذا بكثير. و ربما استنكر بعضهم أن يكون العمل السياسي مجالاً تصلح له المرأة ويصلح لها.
كثيرون هم من يحاربون دخول المرأة معترك الحياة السياسية بل معترك العمل بشكل عام ولهم في ذلك حجج كثيرة وروايات طويلة وتبريرات متعددة، والغريب أن من يحرص على ذلك يحاول جاهداً إثبات وجهة نظره من أبواب عدة كالدين والمجتمع والعيب وغيرها إلا أن أحداً منهم لم يجهد نفسه في بحث موقف ورؤية الإسلام من قضية المرأة التي بلا شك تتطلب معرفة الأسس المعرفية والمفاهيم الخاصة بها لتقديم تصوركلي يواجه ويدحض التصورات التي وضعها هؤلاء بغية إيقاف تقدم دخول المرأة لهذا المجال، تلك الأصوات الكثيرة في العالم الإسلامي والتي تدعو إلى منع المرأة من المشاركة في العمل السياسي والوظيفي إلا في إطار ضيق جدًا تستشهد بموقفها ذلك بجملة أدلة لا تثبت لدى النظر الفاحص الدقيق، منها قوله سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وفي ذلك أمر بالمكوث بالمنزل وعدم الخروج منه تماماً، ومنها أيضاً مبدأ سد الذرائع الذي يتمثل في خروج المرأة للعمل وما قد يعرضها ذلك من خلوة ربما أفضت إلى الحرام، ثم مشاركة المرأة سياسيًّا ربما تجعل لها ولاية على الرجل، وهذا مخالف للشرع ومخالف للأصل الذي أثبته القرآن الكريم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}.
والجواب عن ذلك كما عبَّر عدد من علماء الدين:
آية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} لا تقدم دليلاً على منع مشاركة المرأة في العمل العام، وذلك لعدة أسباب منها، أن الآية تخاطب نساء النبي- صلى الله عليه وسلم- كما هو واضح من السياق، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن من الحرمة وعليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا كان أجر الواحدة منهن إذا عملت صالحا مضاعفا، كما جعل عذابها إذا أساءت مضاعفا أيضا، وأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مع هذه الآية خرجت من بيتها، وشهدت (معركة الجمل) استجابة لما تراه واجبا دينيا عليها، وهو القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وإن أخطأت التقدير فيما صنعت كما ورد عنها رضي الله عنها. ثم إن المرأة قد خرجت من بيتها بالفعل، وذهبت إلى المدرسة والجامعة وعملت في مجالات الحياة المختلفة، طبيبة ومعلمة ومشرفة وإدارية وغيرها، دون نكير من أحد يعتد به، مما يعتبره الكثيرون إجماعا على مشروعية العمل خارج البيت للمرأة، بشروطه الشرعية المعروفة من احتشام وغيره. والحاجة تقتضي من (المسلمات الملتزمات) أن يدخلن معركة العمل العام في مواجهة المتحللات والعلمانيات اللائي يتزعمن قيادة العمل النسائي، والحاجة الاجتماعية والسياسية قد تكون أهم وأكبر من الحاجة الفردية التي تجيز للمرأة الخروج إلى الحياة العامة.
أما مسألة سد الذرائع وفتحها سواء، فلا شك أنَّ سد الذرائع مطلوب، ولكن العلماء قرروا أنَّ المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، وقد يترتب عليها ضياع مصالح كثيرة، أكبر بكثيرمن المفاسد المخوفة، وهو من المسائل التي تقدر بقدرها من غيرما شطط ولا غلو.
و قد وقف بعض العلماء يوما في وجه تعليم المرأة ودخولها المدارس والجامعات من باب سد الذرائع حتى قال بعضهم: تعلم القراءة لا الكتابة حتى لا تستخدم القلم في كتابة الرسائل الغرامية ونحوها، ولكن غلب التيار الآخر، ووجد أن التعلم في ذاته ليس شرا، بل ربما قادها إلى خيركثير.
أما في مسألة ولاية المرأة على الرجل فالآية الكريمة التي ذكرت قوامة الرجال على النساء إنما قررت ذلك في الحياة الزوجية، فالرجل هو ربّ الأسرة، وهو المسئول عنها، بدليل قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فقوله سبحانه وتعالى: {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} يدل على أن المراد القوامة على الأسرة، وهي الدرجة التي منحت للرجال في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، ومع قوامة الرجل على الأسرة ينبغي أن يكون للمرأة دورها، وأن يؤخذ رأيها فيما يهم الأسرة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في مسألة فطام الرضيع، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، وكما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: «أمروا النساء في بناتهن»، أي استشيروهن في أمر زواجهن.
أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال خارج نطاق الأسرة فلم يرد ما يمنعه، بل الممنوع هو الولاية العامة على الرجال.
والحديث الذي رواه البخاري: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» إنما يعني الولاية العامة على الأمة كلها، أي رئاسة الدولة، كما تدل عليه كلمة (أمرهم) فإنها تعني أمر قيادتهم ورياستهم العامة، أما بعض الأمر فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه، مثل التعليم أو الرواية والتحديث أو الإدارة ونحوها، فهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع.
وقد مارسنه على توالي العصور، فظهر في النساء نوابغ كأمهات المؤمنين وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية التي أخذ عنها ابن شهاب الزهري فوجدها بحرا لا ينزح، وفاطمة السمرقندية، وكريمة التي روت البخاري، وأم الخير التي روت مسلم، وغيرهن كثير.
حتى القضاء أجازه أبو حنيفة فيما تشهد فيه، أي في غير الحدود والقصاص، مع أن من فقهاء السلف من أجاز شهادتها في الحدود والقصاص، كما ذكر ابن القيم في (الطرق الحكمية)، وأجازه الطبري بصفة عامة، وأجازه ابن حزم، مع ظاهريته، وهذا يدل على عدم وجود دليل شرعي صريح يمنع من توليها القضاء، وإلا لتمسك به ابن حزم، وجمد عليه، وقاتل دونه كعادته.
وما يؤيد تخصيص الحديث بالولاية العامة السبب الذي ورد من أجله الحديث، فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الفرس بعد وفاة إمبراطورهم، ولوا عليهم ابنته بوران بنت كسرى، فقال: «لن يفلح قوم....».
لذا كان علينا ألا نفرط في موقفنا المانع ولا في موقفنا الداعم، بل يجب النظر بوسطية للموضوع برمته.
ولن أتحدث عن تلك التشريعات التي أربكت الأمة مؤخراً وأصبحت حديث من لا حديث له وفرقت بين كثير وأشعلت فتنا كثيرة بين فرق تراها صحيحة وأخرى تراها خاطئة، ولن أتحدث عن شذوذ بعضهم في تناول قضايا الأمة وإشغال أنفسهم بالتصدي لها وجعلها من أولوياتهم من مبدأ واجباتهم سواءً الدينية أو غير الدينية، ولا عما خرج علينا من تشريعات هي أقرب للطرف في بعضها ولاستهجان حكماء وعقلاء الأمة في غالبيتها، ولا السجالات التي دارت بين مؤيديها ومعارضيها أو ذم مصدر التشريع وحث الناس على الابتعاد عنه والتحريض عليه وملاحقته بل وعزله والتعرض له ولعرضه ولمعتقده، أو مدحه ودفع الناس للتصديق بما أورده والثناء عليه، وعلى ما شرعه وجعل ذلك انفتاحا في السياسة العامة للتشريع وتطوراً غير مسبوق في سباق التشريعات، الأمر الذي جعل منا أضحوكة لباقي الأمم وبتنا نسمع منهم عن تلك التشريعات أكثر مما نسمع بالداخل.
بل سأتحدث عن حكمة القائد وحنكته ووقفته، الرجل السعودي الأول الذي استشعر دور المرأة وضرورة تواجدها في محله ضمن ضوابط الدين والشرع، القائد المحبوب الذي وقف وقفة الحازم المكين على أمته والحارس الأمين على العقيدة وعلى رجالات العقيدة ومؤسساتها الرسمية في البلاد، أعطى للمرأة حقها في المشاركة السياسية عبر السماح لها لدخول مجلس الشورى عضوة والترشح والتصويت للانتخابات البلدية.
تلك الوقفة الحازمة التي برهنت أن بلادنا بأيد أمينة لا يمكن لفئة قليلة أن تؤدي بها إلى الضياع من خلال إرباكها ببعض ما يصدر عن تلك الفئة من تشريعات مخالفة وما يتبعها عادةً من مهاترات لا تزيد الأمة إلا إرباكاً وضياعاً.
هكذا هي الأمانة حينما يحملها الرجال وهكذا هي أخلاق السلاطين وخلفاء الله في الأرض فهنيئاً لنا برجل المملكة الأول، وهنيئاً لنا بحارس الدين والبلاد الملك عبدالله بن عبدالعزيز. إلى لقاء قادم إن كتب الله.
dr.aobaid@gmail.com