لم أكن يوماً أتخيل أن التطور الذي حل بالانجليزية (في أميركا) يمكن أن يستشري في لغتنا العربية المستخدمة في عصرنا الحاضر، لبعد العربية أصلاً وثقافة عن أوربا وجزيرتها الشمالية، وبعدها الأكثر عن العالم الجديد وعن ثقافته بدرجة أكبر.
لكن قبل أن نتعرض لتلك المقارنات اللغوية والثقافية، يمكننا أن نستعرض لقطات صبغت حياتنا الاجتماعية - في المدن الكبيرة على أقل تقدير - وهي لقطات أصبحت ديدن المؤسسات الراعية لنشاطات يحتاجها أفراد المجتمع، من مؤسسات عامة وخاصة ذات وهج اقتصادي ودور اجتماعي بارز. فالإنسان المتعامل مع هذه المؤسسات - رغم كونها تستفيد منه مالياً، وهو مبرر وجودها - يقع خارج المعادلة تماماً؛ فهو مطلوب منه أن يدفع مبالغ مالية لخدمات لا يحق له أن يناقش بنودها، أو يستفسر عن طريقة الاستفادة من الخدمات التي دفع رسومها كاملة.
عندما اتجهت إلى مكتب خدمات سفر مرموق، ودفعت له مقابل الخدمات التي اتفقت مع المكتب على اختيارها (وهي تأمين على الأفراد ومتعلقات السفر ضد الطوارئ أو الحوادث المتعلقة بالسفر)، لم يكن يدور بخلدي أن المكتب لا يعرف شيئاً عن طبيعة ما يُقدّم من خدمات في حالة الحاجة إليها. وبعد أن قرأت الوثيقة في المنزل، ولم أفهم بندين من بنودها بشكل كامل، هاتفت المكتب مستفسراً عنهما، وطالباً إيضاح طريقة المطالبة في حالة حدوث طارئ. فكانت المفاجأة أن المكتب الذي يُعد - من وجهة نظر قانونية - وسيطاً بيني وبين شركة التأمين، لا يعرف عن تلك الشروط أكثر مما أعرف. وطلب مني أن أتصل بشركة التأمين نفسها، لأستفسر عما أريد، وكأن دور المكتب لا يعدو أن يكون بريداً بين العميل وشركة التأمين، وقابضاً لجزء من المال قبل تمريره إلى الجهة المستفيدة. بل أكثر من ذلك؛ كرّر على مسامعي أن هذه الوثيقة أعطيناك إياها من أجل السفارات، لأخذ التأشيرة، مع أني كنت قد طلبت هذه الوثيقة بشكل محدد دون أن أكون بحاجة إلى تقديمها للحصول على التأشيرة. فكأن المكتب يعتقد أن لا أحد في هذه البلاد يسعى إلى الاستعانة بخدمات قد يحتاجها في حالة أي طارئ، وهو خارج البلاد. هذه الحادثة ذكرتني بما كنت أجد من تهكم الأصدقاء والأقارب الذين كانوا يضحكون كلما ربطت حزام مقعد السيارة قبل انطلاقها؛ في وقت لم يكن ربط الحزام قد وضع ضمن أنظمة المرور في بلدنا. وكانت أغلب التعليقات: لا هو نظام، ولا تنال على عدم ربطه مخالفة! وكأن الاحتراز من الحوادث أمر غريب على أفراد مجتمعنا، أو كأن الحرص على شروط السلامة مقصور على الكائنات الغربية، التي نود أن نستورد منها المنتجات وشروط الحياة الحديثة، دون قيم تلك الحياة وظروف متطلباتها.
أعود إلى ما بدأت به المقالة؛ لماذا لا نقلد الأمريكيين في السلوك الإيجابي نحو قيم الحياة؛ وفي المقابل نقلدهم في السلوك السلبي مثل: استخدام “ما عندك مشكلة” في الرد على عبارات الشكر. وهي ترجمة لعبارة no problem القميئة. فنفي وجود المشكلة لا يتناسب أبداً مع جو الشكر الذي يفترض أن تكون العبارة رداً فيه على عبارة امتنان؛ تقابل للأسف بهذا البرود. أعرف أن شبابنا الذي يستخدمها لا يقصد أن يتصف بهذا الجمود الذي تضفيه هذه العبارة على الجو الاجتماعي؛ لكن لغتنا مليئة بعبارات رد الشكر التي تستطيع أن تحل بدلاً من هذه الترجمة، التي تنبئ عن شعور غير جميل. وفي هذا المجال بالذات لسنا بحاجة إلى الاستعارة من الآخرين.