على قدر ما يحتفي الناس بإقبال الدنيا عليهم، عملاً لها، وبذلاً في سبيلها، ولهاثاً لتشييد أرضها، وتعمير أركانها وزواياها، وفرش آمادها، وبسط مداها، وإخراج ثرواتها, وضخ مياهها، وسن قوانينها، وتشريع نظامها..
بقدر ما يركضون يتفننون لكل ذلك, في صناعة أحذية تقي أقدامهم لهب الركض نحوها، وشوك, وحصى دروبها.. لمزيد من السباق، تحتها, وفوق ثراها، ومطلق عُلاها..
لكنهم ينسون أن غش القلوبِ، وساوسُ شياطينها، وأقفالَ الصدور أعمالُها فيها..
تنزل الدنيا في القلوب منازل المتربعين الماكنين، الساكنين، القاطنين، الأمنين، حين تنزل بها الشياطين، فتوصد أبوابها على عشقها دون غيرها، تُلهب فيها الشغف بها.., فتعينها على سبل اللهاث نحوها، وتمهد لها الطرق فيها، وتزين إليها الفِكَرَ.. وتبسط لها الأحلام، وتفرش لها السراب..
فتسورها بالأماني العريضة، فتتجند عقولُهم لهذه الدنيا...
الدنيا حين تتداخل الأوقات في الذهن، وتختلط الحاجات في القلب، وتذوب النفس في الكف, تتحول جداول الأيام, والليالي لعمل دؤوب لكنه مبدد، هادر، مضيع..لا يفوق منه المرء إلا على شفا حفرة من التيه..
إما خاسراً ذاته، فلا ثمر يحصد.., أو ماله فلا رصيد يُحسد.., أو صحته فلا عافية تُوجَد.., ولا رفيق يُحمد...
السين في الأيام سبت, لا تتقدم الألف في الأحد منها..
لكن الحروف في توقيته خليط، يتأوه كيف مرت, وفرت, دون أن تتوالى عليه نظاماً, وقتياً عرف كيف يبث في ثوانيه النور, ويكسب في خواتيمه الحصاد...
الاحتفاء الكبير بالدنيا انطلاق بأجنحة الشياطين...
فمتى تكون سجناً للإنسان, حين يراها لا تساوي جناح بعوضة..
فتتوق روحه لفسيح المدى, في حصاد أثمن، وأبقى..؟
إن هناك خللاً كبيراً في تنشئة النفوس, وتربية القلوب، وتوعية العقول للتمييز بين دنيا حميدة، ودنيا بديدة..
أو للإقبال والعمل بتوازن بين رغائب الدنيا البديدة، ورغائب النجاة السعيدة..
ذلك ما تعكسه مرآة تتسع للهاث، وتناكب الأحياء نحوها... كما ترون.