موقف أمريكا العدائي الأخير تجاه مسألة اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية على حدود 1967م موقف ليس غريباً، وإنْ كان مناقضاً لما وعد به الرئيس أوباما من أنه لابد من قيام دولة فلسطينية مستقلة في هذا العام.
ليس هذا الموقف العدائي غريباً لأنّ ما يرضي الصهاينة لا يمكن أن يخالفه القادة الأمريكيون كما تأمّله المتأمِّلون، قديماً وحديثاً، سواء كان عدم المخالفة تصهيناً أو خضوعاً لنفوذ أولئك الصهاينة المتحكمين في مفاصل الحياة في أمريكا. والذين شاهدوا حماسة أعضاء الكونجرس لمجرم الحرب، ناتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وهو يلقي خطابه أمامهم بكل غطرسة واستعلاء، يدرك غاية الإدراك هيمنة النفوذ الصهيوني في الدولة الأمريكية ذات الصولة والجولة المستكبرة على العالم إلاّ على الدولة الصهيونية.
ومن المعلوم والثابت عراقة رسوخ التصهين لدى بعض قادة أمريكا وعمق جذوره. فقد كانت أول رسالة دكتوراه منحتها جامعة هارفرد الشهير، عام 1642م، بعنوان: العبرية هي اللغة الأم. وفي هذا ما فيه من دلالات واضحة. وفي عام 1818م؛ أي قبل إعلان وعد بلفور البريطاني المشهور لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين بمئة عام، نادى الرئيس الأمريكي، جون آدمز، بإقامة دولة لليهود في فلسطين. وفي عام 1888م زار القدس بلاكستون، مؤلِّف كتاب عيسى قادم، فلسطين، ورفع شعار: «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وفي عام 1891م طالبت الحكومة الأمريكية الدول الأخرى بأن تُعطَى فلسطين لليهود. ومن الصدف أنّ مناداة الرئيس الأمريكي، جون آدمز، بإقامة دولة في فلسطين، عام 1818م كانت في العام الذي شهد نهاية الدولة السعودية الأولى، وأنّ مطالبة الحكومة الأمريكية الدول الأخرى بأن تُعطَى فلسطين لليهود، عام 1891م، كانت في العام الذي شهد نهاية الدولة السعودية الثانية. وفي القرن العشرين الميلادي تضاعفت جهود المتصهينين في أمريكا. ومن أدلّة ذلك أنه لم تمض عدّة شهور على إعلان وعد بلفور المشؤوم، عام 1917م، حتى أيّده الرئيس الأمريكي ولسون، والتزم بالعمل على تنفيذه، مع أنّ ذلك الرئيس اشتهر بمناداته بمبادئ عظيمة بينها احترام حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وفلسطين حينذاك مأهولة بأهلها العرب؛ مسلمين ونصارى، منذ القديم. وفي عام 1930م تأسست «منظمة الاتحاد الأمريكي من أجل فلسطين» للدفاع عن الوطن القومي اليهودي. وفي عام 1938م أصدرت الحكومة الأمريكية، التي كان رئيسها روزفلت - وهو الذي روَّج بعض الكتّاب من أُمَّتنا؛ لا سيما من هم من بلادنا أو المحسوبين عليها - بياناً أحال الملك عبدالعزيز إليه على أنه الموقف الرسمي المُعبِّر عن حكومته، ورد فيه:
«كما هو معروف حق المعرفة فالشعب الأمريكي قد اهتم اهتماماً وثيقاً عدّة سنين برقيِّ الوطن القومي اليهودي في فلسطين ... وكل رئيس؛ ابتداءً من الرئيس ولسون، قد عبَّر عن اهتمامه الخاص في مناسبة واحدة، أو في مناسبات عديدة، بفكرة وطن قومي (لليهود)، وأبدى سروره بالتقدم الذي وصل إليه لإنشاء هذا الوطن. وفوق ذلك فقد عبَّر عن عطف الأمريكيين على الوطن اليهودي في فلسطين ... وإنه في ضوء هذا الاهتمام قد راقبت الحكومة الأمريكية وشعبها بأشد العطف تدرُّج الوطن القومي في فلسطين. وهو مشروع لعب فيه الذهب ورأس المال الأمريكي دوراً رئيساً».
وموقف ذلك الرئيس الذي روَّج له من روَّج، وحاول إظهاره بمظهر إيجابي بالنسبة للقضية الفلسطينية من حاول، بذكر المتأمّل بخطاب أوباما في جامعة القاهرة، الذي حاول الخدّاعون أو المنخدعون، إظهاره بمظهر إيجابي بالنسبة لتلك القضية مع أنه لم يتضمَّن ما هو إيجابي لها؛ مثل الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967م - بما في ذلك القدس، التي لم يقل عنها إلاّ إنها ملتقى للديانات الثلاث السماوية دون أن يحدد من تكون تابعة له لأهلها العرب؛ مسلمين ومسيحيين، أم لمحتلِّيها الصهاينة، ومثل قضية حق العودة للاجئين الفلسطينيين. بل إنه أشار إلى تأييد ما يطرحه الصهاينة من أن تصبح فلسطين دولة «يهودية»؛ تمهيداً لطرد كل من هم فيها من أهلها الفلسطينيين. وكما أكَّد الرئيس الأمريكي روزفلت للملك عبدالعزيز، رحمة الله، عبر رسالته المتضمِّنة موقف حكومته المنحازة للصهاينة من اليهود، جاء تعهُّد الرئيس الأمريكي أوباما أمام العالم؛ وهو يرى حماسة أعضاء الكونجرس، وإجلالهم، لرئيس وزراء الكيان الصهيوني، ناتنياهو، وهو يلقي خطابه عليهم بكل غطرسة واستعلاء، بأنه ملتزم دائماً بتأييد الكيان الصهيوني.
وكان الرئيس الأمريكي بوش الأب ممن روَّج كتَّاب من أُمّتنا، لا سيما من أهل الخليج، بأنه مناصر للعرب. ومن المتفق عليه أنّ قضية فلسطين هي أهم قضايا هؤلاء العرب, أو المنتمين بقضايا أُمّتهم. فماذا قال وزير خارجية ذلك الرئيس الأمريكي المروّج له على أنه مناصر للعرب؟ قال ذلك الوزير: «إنّ أمريكا ملتزمة التزاماً راسخاً بأمن إسرائيل منذ لحظة تأسيسها؛ وهو الالتزام، الذي أكدته إدارة بوش مراراً وتكراراً. وإنّ الولايات المتحدة قدَّمت - ما بين 1989 و 1992م - خمسة إسهامات مهمّة لوجود إسرائيل وأمنها تفوق وتتجاوز إنجازات أسلافنا. وهذه الإسهامات:
1- مكنت دبلوماسيتنا وخزانتها إسرائيل من استيعاب مئات الآلاف من اليهود الروس والأثيوبيين.
2- كنا أداة معنوية في مساعدة إسرائيل على إقامة علاقات دبلوماسية مع أربع وأربعين دولة بما فيها الاتحاد السوفيتي.
3- كنا وراء إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، عام 1975م، بدمغ الصهيونية بالعنصرية.
4- إنّ الجيش الأمريكي - بعملية عاصفة الصحراء - لم يطرد العراق من الكويت فحسب، بل إنه في الواقع قضى على التهديد الاستراتيجي الذي يمثِّله ألدّ أعداء إسرائيل.
5- إنّ التاريخ سوف يسجل أنّ أهم إنجازات بلدنا لصالح إسرائيل هو جمعنا جيرانها معها على مائدة السلام لإجراء مباحثات مباشرة، وهو هدف طالما سعت إلى تحقيقه على مدى أربعين عاماً.
والواقع أنّ إسهامات إدارة بوش للدولة الصهيونية لم تقتصر على تلك الخمسة الكبيرة؛ بل تجاوزتها. ومن ذلك إمدادها بأكثر من بليون دولار نقداً، وضمانها بعشرة بلايين دولار أنفق منها على بناء مستوطنات (مستعمرات) في فلسطين المحتلة.
وما قامت إدارة بوش الابن من جريمة كبرى ممثَّلة باحتلال العراق، والقضاء على جيشه خدمة للصهاينة كما اعترف بذلك رئيس أركان القوات الأمريكية، إكمال لما بدأته إدارة أبيه. هل اختلف موقف الإدارة الأمريكية الحالية عن موقف الإدارتين البوشيّتين من حيث الجوهر بالنسبة لتأييد الكيان الصهيوني؟ هذا ما لا يستطيع كاتب هذه السطور رؤيته.