أية دولة تستمر لما يقرب من الثلاثة قرون، مثل الدولة السعودية، عادة ما تتشكل خلال هذا العمر الطويل كثير من (التقاليد) بين فئاتها المجتمعية، لتصبح هذه التقاليد مرعية، ومحترمة من قبل فئات المجتمع.
أحد أهم هذه التقاليد هي علاقة العلماء بولاة الأمر؛ هذه العلاقة كان يحكمها طوال تاريخ الدولة الاحترام المتبادل، والتقدير، وإبداء المشورة؛ وكان هذا (التفاعل) يتم بين الطرفين - ولاة الأمر والعلماء - بهدوء وتؤدة، دون تشهير أو تحريض؛ وكان العلماء يعتبرون (هيبة) رموز الدولة خطاً أحمر؛ فلا يقبلون لأحد أياً كان أن يتخطاه، أو يتعدى عليه، ناهيك عن أن يقوم أحد هؤلاء العلماء هو نفسه بالمساس به. وهذا لا يعني أن هذه العلاقة لا تمر أحياناً باختلاف في وجهات النظر، وتباين في الاجتهادات، غير أن هذه الاختلافات - إذا حدثت - تبقى دائماً رهن التداول، والأخذ والعطاء، ولا يعلن عنها، ولا يسمح لها أن تصل إلى مستوى (الشرخ) في العلاقة. ومن يقرأ في تاريخ الدولة السعودية، بحقبها الثلاث، يجد أن من أهم ما يميزها أن هذه التقاليد في التعامل بين ولاة الأمر والفقهاء كانت عنصراً ثابتاً بوضوح في الدولة السعودية الأولى، وكذلك الثانية، وأيضاً في الثالثة؛ ورغم الظروف والمتغيرات والأحداث والأزمات التي اكتنفت تاريخ هذه الدولة، كان العلماء يتعاملون مع الدولة على أساس أنهم (حُماة) لها، يدافعون عنها، وعن رموزها، وعن شرعيتها، ويتفانون في الذب عنها بالقلم وكذلك بالحسام؛ فلم يعرف (قط) أن حاول أحدٌ من العلماء أن يستغل منبراً من المنابر المتاحة - آنذاك - للإساءة لها أو لأحد من رموزها، أو المساس بهيبته، أو نقده، أو التعريض بمكانته علناً وعلى رؤوس الأشهاد؛ رغم وجهات النظر المتباينة، وبعض القضايا التي يختلفون عليها مع ولاة الأمر، فقد كانوا يحرصون غاية الحرص على إبقائها رهن التفاهم والنقاش، والأخذ والعطاء، بعيداً عمّا قد يُفسر، أو يُقرأ، على أنه اختلاف، ناهيك عن نزاع أو خصام. وكانت (الأنا) - أعني هنا (أنا) الشيخ تحديداً - تغيب دائماً عن أية نقاشات، أو حتى اختلافات بين ولي الأمر والفقيه؛ فلم يعرف أن أحد المشايخ قد انتصر لنفسه، أو جعل من (ذاته) ومكانته الشخصية، وتاريخه قضية، ولم يُعهد أن طغت (ذاتٌ) بعينها على قضية خلافية، فحولتها من كونها قضية عامة إلى قضية خاصة؛ وهذا ما تثبته المصادر التاريخية التي أصبحت اليوم متداولة ومنتشرة بين المؤرخين والمعنيين بتاريخ هذه الدولة.
ولعل أهم ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن مثل هذه الاختلافات في وجهات النظر كثير من الممارسات (التحديثية) التي اعتمدها الملك عبدالعزيز رحمه الله، ولاقت من بعض العلماء، وطلبة العلم، معارضة أو تحفظات. كانوا يلجؤون دائماً إلى الكتابة، أو الاتصال الشخصي، ويظهرون ما يجدون فيه إبراء لذمتهم، ولم يعرف تاريخهم قط أنهم استغلوا (منبراً)، أو مارسوا علناً حشد الأتباع لوجهات نظرهم من العامة والرعاع، بل كانوا يبقون خلافاتهم تحت سقف الطاعة، ويحرصون غاية الحرص على ذلك في كل ممارساتهم.
والسؤال: ما الذي تغيّر حتى نسي بعض علمائنا ممارسات أسلافهم، وتقاليدهم الراسخة هذه التي كانوا يصرون عليها، ولا يحيدون عنها قيد أنملة،؟.. الذي تغيّر أنّ (الأنا المتضخمة) طغت، وأصبحت في الآونة الأخيرة هي مربط الفرس وبيت القصيد.
إلى اللقاء.