تبين في الحلقة الأولى أن العلماء مختلفون في تكييف الأوراق النقدية، فمن قائل بسنديتها، وقائل بعرضيتها، إلى قائل ببدليتها من النقدين، وقائل بثمنيتها، وتبين هناك أنه لا غرض من مناقشة تلك الأقوال، وإنما الغرض مناقشة ما يطرح في هذه الأيام من أنها ثمنية، وأن الثمنية ليست علة الذهب والفضة، وقد تبين أن هذا لا يخرج عن قول الظاهرية عند التحقيق، ونوقش في تلك الحلقة دليل الظاهرية، وبان ضعفه، ثم عُرِضَ الرأي المنسوب إلى الأئمة الأربعة في تكييف الفلوس، وتم تحقيق قول أبي حنيفة، وتبين أنه يُجَوِّزُ بيع الفلس بالفلسين، ويشترط التقابض، وأن جل أصحابه منعوا الفلس بالفلسين.
وأما مالك فكان لا يوجب الزكاة في الفلوس، ويجوز فيها التفاضل، ثم رجع عن ذلك كله، والظاهر أنه بنى قوله الأول على أنها - وإن كانت من الأثمان - لم تزاحم النقدين، إذ كان النقدان آنذاك هما عملة الناس، وإنما كانت الفلوس لصغير المبيعات، فلم يكن يراها صريحة في كونها سِكَّةً، ففي «المدونة» (3 - 629): «قال سحنون: قال ابن القاسم: وليست الفلوس عند مالك بالسكة البينة، حتى تكون عينا بمنزلة الدنانير والدراهم، وقد أخبرنـي عبد الرحيم بن خالد: أن مالكا كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم نظرة، ثم رجع عنه منذ أدركته، فقال: أكرهه، ولا أراه حراما كتحريم الدراهم بالدنانير».
ومراده بالكراهة هنا التحريم ؛ بدليل أنه قال: «كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم نظرة، ثم رجع»، فالرجوع عن التجويز يعني التحريم، وأما قوله: «ولا أراه حراما كتحريم الدراهم بالدنانير «فمراده به أنه لم ينص الشارع على حرمته، ولذلك لا يكون تحريمه في كل حال، وإنما في حَالِ اشْتَهَرَ سِكَّةً، ومما يؤكد هذا أنه استقر رأيه على منع التفاضل والنسيئة في الفلوس، وعلى إيجاب الزكاة فيها، وقد طرد هذا الرأي في جميع أبواب المعاملات، وأذكر أمثلة لذلك من أبواب متفرقة:
المثال الأول: أنه جعل للفلوس حكم النقدين في أمر الربا، ففي «المدونة «(3 - 5) «قلت: أرأيت إن اشتريت فلوسا بدراهم، فافترقنا قبل أن نتقابض ؟ قال: لا يصلح هذا في قول مالك، وهذا فاسد، قال لي مالك - في الفلوس -: لا خير فيها نَظِرَةً [أي: نَسِيئَةً] بالذهب ولا بالوَرِقِ، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين ؛ لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة»، والوَرِق - بكسر الراء -: الفضة.
فلو لم يكن لها حكم النقدين؛ لجوز فيها النسيئة، فإنه لا مانع من النسيئة في بيع أحد الربويين بالآخر إذا كان أحدهما نقدا والآخر غير نقد، وقد صرح ابن القاسم بقول مالك بعد هذا بقوله: (3 - 5) «قلت: أرأيت إن اشتريت خاتم فضة - أو خاتم ذهب، أو تِبْرَ ذهب - بفلوس، فافترقنا قبل أن نتقابض، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا في قول مالك؛ لأن مالكا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب، والفضة، ولا بالدنانير، نظرة «، وفي هذا النص أيضا مَنْعُهُ التفاضلَ بين الفلوس، كما نص ابن القاسم في موضع آخر على هذا المعنى، قال سحنون في «المدونة» (3 - 159): «قلت: أرأيت إن اشتريت فلسا بفلسين أيجوز هذا عند مالك؟ قال: لا يجوز فلس بفلسين».
والعلماء كافة - ومنهم مالك - يجوزون النحاس بالذهب أو الفضة، نظرة - أي: نسيئة - والبر بالذهب أو الفضة، نظرة - أي: نسيئة - فلو لم يكن للفلوس حكم الذهب والفضة عند مالك ؛ لجوز خاتم الذهب أو الفضة بالفلوس نسيئة، ولجوز في الفلوس التفاضل.
وواضح من ذلك أن مالكا صار يفرق بين النحاس المضروب سكة، والنحاس غير المضروب، وأنه لم يكن يفرق قبل ذلك لأن الفلوس لم تكن في رأيه آنذاك سكة، وليس لأنه اختلف رأيه في التعليل لربوية الذهب الفضة، وإن كان بعض أصحابه يرون ذلك، بل رأيه أن العلة فيهما مطلق الثمنية لم يختلف، وأما الذين قالوا: كان يعلل بغلبة الثمنية، ثم صار يعلل بمطلق الثمنية، فإنما بنوا قولهم على أنه كان لا يجري الربا في الفلوس، ثم صار يجريه فيها، وهذا بناء لا يصح؛ لما مر تفصيله.
المثال الثانـي: أنه مَنَعَ أن تكون الفلوس عاريَّة، كما منع ذلك في الدنانير والدراهم؛ لأنها ليست عنده عرض تجارة، إذ كان يراها ذات ثمنية، ففي «المدونة» (4 - 452): «قلت: أرأيت إن استعار رجل دنانير أو دراهم أو فلوسا؟ قال: لا تكون في الفلوس والدراهم عارية، ولا في الدنانير؛ لأنا سألنا مالكا عن الرجل يحبس على الرجل المائة الدينار، السنة أو السنتين، فيأخذها، فيتجر فيها فينقص منها؟ قال مالك: هو ضامن لما نقص منها، وإنما هي قرض، فإن شاء قبضها على ذلك، وإن شاء تركها، قلت: وتكون هذه الدنانير حبسا في قول مالك، أم يبطل الحبس فيها؟ قال: هي حبس إلى الأجل الذي جعلها إليه حبسا، وإنما هي حبس قرض، قلت: فإن أبى الذي حبست عليه قرضا أن يقبلها؟ قال: ترجع إلى الورثة، ويبطل الحبس فيها، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم».
وبيان ذلك أن الدنانير والدراهم والفلوس لم يكن كل نوع منها بمنزلة واحدة، فقد يكون دينار أفضل من دينار، إذا كان صحيحا، وكان الآخر مُكَسَّرَ الأطراف، وكذا الحال في الدراهم والفلوس، فلو كانت العبرة بعينها لصحت فيها العاريَّة، ولكن لما كان المعتبر فيها القيمة؛ لم تصح العارية؛ لأن الإتيان بعينها شبيه بالمحال، وهذا معنى قولهم: إنها لا تتعين.
بل لم تكن الفلوس عند مالك - لا في قوله الأول ولا في قوله الآخر - ولا عند أحد من مشايخه، ولا مشايخ مشايخه؛ عَرَضَ تجارة، جاء في «المدونة»: (3-5-6) قال: الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، وربيعة: إنهما كرها الفلوس بالفلوس، وبينهما فَضْلٌ، أو نَظِرَةً، وقالا: إنها صارت سكة مثل سكة الدنانير والدراهم، الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، قالا: وشيوخنا كلهم أنهم كانوا يكرهون صرف الفلوس بالدنانير والدراهم، إلا يدا بيد، وقال يحيى بن أيوب: قال يحيى بن سعيد: إذا صرفت درهما فلوسا فلا تفارقه حتى تأخذه كله».
المثال الثالث: أنه أوجب أن يكون قضاء الفلوس بسعر يوم القبض، كحال الذهب والفضة، جاء في «المدونة» (3-52): «قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة بدانَق، فرخصت الفلوس أو غلت، كيف أقضيه، أعلى ما كان من سعر الفلوس يوم وقع البيع بيننا؟ أو على سعر الفلوس يوم أقضيه في قول مالك؟ قال: على سعر الفلوس يوم تقضيه في قول مالك».
المثال الرابع: أنه جَوَّزَ إسلام الطعام في الفلوس، ولم يجوز إسلام الدنانير أو الدراهم بالفلوس؛ لأنه يشترط فيهما التقابض، ولو لم يكن لها حكم النقدين لجوز هنا السَّلَمَ، جاء في «المدونة» (3 - 70): «قلت: فما قول مالك فيمن أسلم طعاما في فلوس؟ قال: قال مالك: لا بأس بذلك، قلت: فإن أسلم دراهم في فلوس؟ قال: قال مالك: لا يصلح ذلك، قلت: وكذلك الدنانير إذا أسلمها في الفلوس؟ قال: نعم، لا يصلح عند مالك، قلت: وكذلك لو باع فلوسا بدراهم إلى أجل، أو بدنانير إلى أجل؛ لم يصلح ذلك؟ قال: نعم، قلت: لم؟ قال: لأن الفلوس عَيْنٌ، ولأن هذا صَرْفٌ»، والمراد بالعين: العملة، وكانت تسمى عينا، وسكة، وثمنا.
المثال الخامس: أنه اعتبر الفلوس المضروبة نقدا، ففَرَقَهَا عن أصلها النحاسِ، كما تفترق الدنانير والدراهم عن أصلهما الذهب والفضة، فالتبايع عنده بين أفراد كل جنس إنما هو بالعدد، لا بالوزن، ولا بالكيل، جاء في «المدونة» (3-158): «قال ابن القاسم: قال مالك: لا يصلح الفلوس بالفلوس جزافا، ولا وزنا مثلا بمثل، ولا كيلا مثلا بمثل، يدا بيد، ولا إلى أجل، ولا بأس بها عددا، فلس بفلس، يدا بيد، ولا يصلح فلس بفلسين، يدا بيد، ولا إلى أجل».
وأما الشافعي فقد جَوَّزَ الإسلام في الفلوس، ولم يجوزه في الذهب والفضة، لأمرين:
أحدهما: أن الفلوس ليست من الأموال الربوية، ومَنَعَ قياس الفلوس على الدراهم والدنانير، لأن الثمنية فيها ليست غالبة في كل البلدان كما هي غالبة فيهما، قال: «ولا بأس بالسَّلَفِ في الفلوس إلى أجل؛ لأن ذلك ليس مما فيه الربا»، وقال: «فإن قال قائل: فقد تجوز في البلدان جواز الدنانير والدراهم ؛ قيل: في بعضها دون بعض وبشرط».
الثاني: أنها ليست مستودعا للأموال، بدليل أنه لم يثبت فيها الزكاة، قال: «وإنما أجزت أن يسلم في الفلوس بخلافه في الذهب والفضة بأنه لا زكاة فيه، وأنه ليس بثمن للأشياء كما تكون الدراهم والدنانير أثمانا للأشياء المسلفة».
وقد أكد هذا المعنى بقوله - في الأم 3 - 33 -: «فإن قال: الحنطة ليست بثمن لما استهلك ؛ قيل: وكذلك الفلوس، ولو استهلك رجل لرجل قيمة درهم أو أقل ؛ لم يحكم عليه به إلا من الذهب والفضة لا من الفلوس»، فبَيِّنٌ من هذا أن الفلوس ليست إلا لمحقرات المبيعات لديه، والناس مجمعون في زمننا هذا على أنه لو استهلك رجل لآخر ذهبا أنه يحكم له بالريالات ونحوها من الورق النقدي.
فالفلوس من نحاس، والنحاس عند الشافعي لا يقاس على النقدين، لأنه لا يرى أن علة الربا فيهما الوزن، وإنما يرى أنها الثمنية الغالبة، ولم ير أن الفلوس قِيَمٌ للأشياء، ولو كانت قيما للأشياء لأوجب فيها الزكاة، فإنه قال - في الأم 3 - 98 -: «بأنه لا زكاة فيه، وأنه ليس بثمن للأشياء»، وكأنه يلمح إلى أنه متى كانت الفلوس قيما للمتلفات؛ صح فيها الربا، وهذا هو الذي فَهِمَهُ بعضُ أصحابه، ولهذا لما استقر الأمر بعد الشافعي على أن تكون الفلوس قيما للمتلفات؛ قال بعض أصحابه بجريان الربا فيها ؛ لتلك العلة، قال النووي - في المجموع (دار الفكر) 9 - 395 -: «قال الماوردي: ومن أصحابنا من يقول العلة كونهما قيم المتلفات»، وقال - في روضة الطالبين 3 - 380 -: «وفي تعدي الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه».
فالشافعي إذن لا يجري الربا في الفلوس لأنها ليست ذات ثمنية غالبة، وليست مستودعا للثروة، فهل الورق النقدي في عصرنا مجرد من هذين الأمرين حتى يُنَزَّلَ عليه قولُ الشافعي؟
وأما أحمد فلم يصح عنه رواية في تجويز الفلس بالفلسين، وهذا يظهر في مقامين:
المقام الأول: أن من ذكر روايةً في تجويز الفلس بالفلسين ليس لديه ما يثبت به تلك الرواية، وإنما الثابت أنها تخريج من بعض أصحابه، وقد بَيَّنَتْ عبارات كبار أصحابه أنه لم يجوزه، والذي ثبت عنه في ذلك التحريم فقط، قال أبو يعلى - في «الروايتين والوجهين» رقم (303) -: «نقل أبو طالب، وأحمد، وهشام، وحرب: لا يباع فلس بفلسين»، وتسمى هذه روايةً منصوصةً، قال أبو إسحاق بن مفلح - في المبدع 4 - 127 -: «فنص أحمد أنه لا يباع فلس بفلسين»، وكان أبو عبد الله بن مفلح ذكر أن الثانية منصوصة، فقال - في الفروع 6 - 295 -: «وعليها يخرج بيع فلس بفلسين، وفيه روايتان منصوصتان «، فصصح له المرداوي - في تصحيح الفروع 6 - 295، وفي الإنصاف 5-15 - فقال: «إحداهما: لا يجوز التفاضل، نص عليه في رواية جماعة»، وأما الرواية الثانية ؛ فلم يذكر أنها منصوصة، بل قال: «والرواية الثانية: يجوز التفاضل»، ومعنى كون الثانية منصوصة - عند صاحب الفروع - أنها مخرجة، وسيأتي - إن شاء الله - بيان أن كثيرا مما يسمى منصوصا عن أحمد يكون مخرجا على رواية منصوصة.
فالأولى إذن هي المنصوصة، وأما الثانية؛ فمخرجة على مسألة أخرى، وهي «بيع ثوب بثوبين، وكساء بكساءين»، والذي خرجها عليها أبو الحسين بن أبي يعلى، وقد وَهِمَ في ذلك - عليه رحمة الله - وأصل هذا الوهم أن أحمد سئل عما أخرجته الصناعة عن الوزن هل يبقى على معنى الوزن؟ فأجاب بأنه يبقى، قال ابن منصور الكوسج - في «مسائل الثوري وأحمد وإسحق» رقم (2116) -: «قلت: قال سفيان: وأناس لا يرون به بأسا: الإبرة بالإبرتين، والفلس بالفلسين، والسيف بالسيفين - يقولون: قد خرج من الوزن - وأناس يكرهونه - يقولون: يعود إلى الوزن - وأن يوزن أحب إليَّ، قال أحمد: يعود إلى الوزن، هذا أصله كله واحد»، وقال أبو يعلى - في «الروايتين والوجهين «رقم (303) -: «نقل أبو طالب، وأحمد، وهشام، وحرب: لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينين، ولا إبرة بإبرتين، مما أصله الوزن؛ لأن كل ما دخله الربا فإنه يجرى في معموله كالذهب والفضة».
وسئل في موضع آخر عن التفاضل في الثياب والأكسية، فقال: «لا بأس ببيع ثوب بثوبين، وكساء بكساءين»، والفرق بين المسألتين ظاهر، فإن الذين حكوا الرواية الأولى ذكروا أصنافا لا يزول وزنها ولو غيرتها الصنعة، وذكروا من ذلك الفلس بالفلسين، وأما الثانية فكانت عما تغير بالصنعة، فزال عنه معنى الوزن، كالثياب، والأكسية، ولا تعارض بين الروايتين، بل كلتاهما قول واحد يحكي حالين، لكن القاضي أبا الحسين حكاهما روايتين في أمر واحد، فجعلهما مسألة واحدة ذات روايتين، قال الموفق - في المغني 4 - 8 -: «ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا روايتين «، وقال الزركشي - في شرحه على الخرقي 3 - 419 -: «فنقل القاضي - في المجرد - إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا روايتين «، وقال ابن مفلح - في المبدع 4 - 127 -: «فنقل في «المجرد «حكم كل إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا روايتين».
وقد تبعه على ذلك بعض أهل المصنفات، كصاحب «الفروع»، وهذا مخالف للمنصوص عن أحمد، ولما عليه والد أبي الحسين، وهو القاضي أبو يعلى، قال الزركشي - في شرحه على الخرقي 3 - 419 - 420 -: «ومقتضى كلام القاضي - في «التعليق»، وفي «الجامع الصغير»- حمل النص على اختلاف حالين، فإنه لما قال: يجري الربا في معمول الحديد ونحوه، وذكر نصه على ذلك، فأورد عليه النص الآخر في جواز ثوب بثوبين، فقال: هذا في ثياب لا ينبغي بها الوزن».
يريد أن صنيع القاضي أبي الحسين مخالف لصنيع والده القاضي أبي يعلى، فإن أبا يعلى جعل الروايتين قولا واحدا متناولا حالين، بل إن مَنْ وافق أبا الحسين على هذا الوهم - كصاحب «الفروع» - قد نَصَّ على أن الرواية الثانية مخرجة على بيع ثوب بثوبين، ولكن لم يمايز بين الثياب والفلوس، قال - في الفروع 6 - 294 - 295 -: «وعلى المذهب - فيما لا يوزن لصناعة - روايتان.. وعليها يخرج بيع فلس بفلسين»، أي: وعلى تلك المسألة يخرج بيع فلس بفلسين.
فليس عن أحمد في الفلس والفلسين روايتان أصلا، بل لم يذكر فيه إلا المنع - على ما مر نقله -.
المقام الثاني: أنه روي عن أحمد تجويزه الإسلام في الفلوس، قال ابن منصور الكوسج - في «مسائل الثوري وأحمد وإسحق»، رقم (2115) -: «قلت: قال [أي: أحمد]: السَّلَفُ [أي: السَّلَمُ] في الفلوس لا يرون به بأسا، يقولون: يجوز برؤوسها ؟ قال: إن تَجَنَّبَهُ رَجُلٌ ما كان به بأس، وإن اجترأ عليه رجل أرجو أن لا يكون به بأس «، فرأى بعض الأصحاب أن هذا دليل على أن الفلوس ليست عنده أثمانا، وإلا لما جوز إسلام الدراهم فيها؛ إذ لو كانت أثمانا لامتنع التفرق قبل القبض.
وهذا - أيضا - مما وقع فيه وهم؛ وذلك أن المأثور عن أحمد في إسلام العروض في الدراهم والدنانير روايتان:
إحداهما: المنع؛ لأنه لا يجوز أن يكون رأس مال السلم إلا ذهبا أو فضة.
والثانية: الجواز؛ لأنه لا ربا بين الدراهم والعَرَضِ من حيث التفاضل ولا النساء، فصح إسلام أحدهما في الآخر، كالعرض في العرض.
وبيان ذلك: أن المُسْلَمَ هو المدفوع أولا، كأن يدفع رَجُلٌ إلى مزارع ثَمَنَ كذا صاعا من القمح يستلمها عند الحصاد، وأما المُسْلَمُ فيه فهو القمح، فالمسلم إذن هو المقدم، ويسمى الثمن، والمسلم فيه هو المؤخر، ويسمى المُثْمَنَ، وهذا لا إشكال فيه، لورود النص به، لكن لو عُكِسَ الأمر، فأعطاه كذا صاعا من القمح، على أن يدفع له كذا من الدراهم عند نهاية العام، لكانت الدراهم مُسْلَمًا فيها، فصارت هي المُثْمَنَ، وكانت الأصواع مُسْلَمَةً، فصارت هي الثَّمَن، وفي هذه الصورة الثانية روايتان عن أحمد، هما المذكورتان آنفا، وهما مبنيتان على رأس المال هل يشترط فيه أن يكون ذهبا أو فضة ؟
فعلى القول بعدم اشتراطه - أي: على القول بجواز السلم في الأثمان - يجب أن يصح السلم في الفلوس مطلقا، سواء كانت أثمانا أو عروضا، وعلى القول بالمنع؛ إن كانت الفلوس عروضا؛ صح فيها السلم، وإن كانت أثمانا لم يصح، قال - في الإنصاف 5-89 -: «الصحيح السلم فيها؛ لأنها إما عرض أو ثمن، لا يخرج عن ذلك، والصحيح من المذهب: صحة السلم في ذلك، على ما تقدم، وأما أنا نقول بصحة السلم في الأثمان والعروض، ولا نصحح السلم فيها؛ فهذا لا يقوله أحد، فالظاهر: أن محل الخلاف المذكور إذا قلنا بعدم صحة السلم في الأثمان».
فتجويز أحمد - إذن - الإسلام في الفلوس ليس لأنه يراها عروضا، فإن من قال ذلك ظن أن المسلم دراهم أو دنانير، وإنما لكونه - في إحدى الروايتين - مجوزا أن يكون المسلم فيه أثمانا.
ومما يؤكد ذلك أنه لما منع - في الرواية التي نقلها ابن سعيد - إسلام الفضة أو الذهب في الفلوس؛ علل بأنه يشبه الصرف، وهذا صريح في أنه يعتبرها أثمانا، وبيع الثمن بثمن لا بد فيه من التقابض، قال أبو الخطاب: «هي أثمان»، وقد نص - في الإنصاف 5- 41 - على أن هذا هو المنصوص، ولم يَرِدْ عن أحمد أن الفلوس عروض، وأما قول المرداوي - في الإنصاف 5- 90 -: «في جواز السلم في الفلوس روايتان، وأطلقهما في الرعاية الكبرى، والفروع، نقل أبو طالب وابن منصور - في مسائله عن الثوري، والإمام أحمد، وإسحاق - الجواز «، فقد أوهم فيه أنهما ينقلان عن أحمد إسلام الدراهم والدنانير في الفلوس، وليس الأمر كذلك، فإن نص ابن منصور المتقدم فيه الإطلاق دون ذكر المُسْلَم، فإنه قال: «السلف في الفلوس لا يرون به بأسا، يقولون: يجوز برؤوسها؟»، وأما نص أبي طالب فلم نقف عليه، لكن وضح من قرن المرداوي له بقول ابن منصور أنه في معناه.
وأما رواية يعقوب وابن أبي حرب: «الفلوس بالدراهم يدا بيد، ونسيئة إن أراد فضلا لا يجوز»؛ فمعناها: أنه لا بد في بيع الفلوس بالدراهم من التقابض، ويجوز تأخير أحدهما إن قصد المتبايعان القرض، بشرط أن لا يزيدا شيئا مقابل الأجل.
القول الثانـي في المسألة: يأتي إن شاء الله في الحلقة التالية (الأخيرة)، ويأتي هناك بإذن الله مناقشة أدلة القولين في تكييف الفلوس، وبسط المسألة الثالثة، وهي «إلحاق الورق النقدي بالفلوس»، والمسألة الرابعة، وهي التفريق بين قولنا: «هذا قول الأئمة الأربعة»، وقولنا: «هذا المقرر في المذاهب الأربعة»، أو «هذا في المذاهب الأربعة»، أو «في مذهب الأربعة».
يتبع غداً
bejady@yahoo.com