* * لم يفقد أحدُهم شبابَ الباءة (1) وقد بلغ من العمر عُتِيّْا؛ لأن غذاءه - قبل انتشار ثقافة الكلسترول - ثريد الْبُرِّ معجوناً بالسمن البريِّ، وفخذ الخروف الذي يرعى من الْبَرِّ أو القت والجزاز (2).. وكان القاضي فُوَيْق العِقْد الخامس وقد فقد شباب الباءة مبكراً؛ فلما أخبره ذلك الشيخ خبر غذائه بصق على ما تدلَّى من لحيته، وقال: (اِخْس يالدجاج)؛ لأن غذاءه من الدجاج الهولندي المُصَبَّر.
* * * قال أبو عبدالرحمن: لستُ من أهل القياس في الشَّرعيَّات، ولكنَّني مضطرٌّ هذه المرة إليه في الدنيويات؛ فأنا أبصق على المتدلِّي من لحيتي بسبب ما أُعانيه من حاجز اللغات الخواجية التي أملك بحذقها ما وراء اللغة المباشرة من الرموز، ولو صرفتُ نصف العشر من مدة اهتمامي بالشعر العامي وثقافته المحدودة لكنتُ بلبلاً في أكثر من لغةٍ خواجية!!.
* لهذا أستجدي وأستجدي ذوي العلم باللغات الخواجية أن يفيضوا عليَّ من بركاتهم في فكِّ رموزٍ أجهلُ بعضها وأعرف قليلاً منها.. وهي رموزُ مفرداتٍ من مفرداتِ الربيع العربي.. منها مثلاً العمُّ سام، ومن صفاته أنَّ لافتات العولمة الاقتصادية تناديه من أجل القطيع الإلكتروني، وأنَّ العمَّ ساماً أكثر وكلاء إمبراطورية العولمة نفوذاً في الضغط على الدول؛ لتكون سوقاً إجبارياً لصادرات تجارة الاستثمار الحرة.. وأطنُّ ظنًّا وما أنا من المستيقنين أن (العمَّ ساماً) هو (نَمِرُ العولمة)؛ فالإمبراطورية الواحدة التي تقود العولمة ليست هي النَّمِر، ولكنها تمتطي النمر.
قال أبو عبدالرحمن: لأول مرَّةٍ في حياتي أعلم أنَّ ذا الناب والأظفار يكون مطيَّةً، والإمبراطورية أكثر الناس مهارةً في امتطاء النمر، وتقول للعالم: (اركبوا معنا، وإن لم تركبوا فابتعدوا عن طريقنا والويل لكم).. وسرُّ مهارة الإمبراطورية في امتطاء النمر أنَّ النمر نفسه تربَّى صغيراً في أحضان تلك الإمبراطورية.
قال أبو عبدالرحمن: إن كان هذا حقًّا فأراهن على أنه ستقومُ حربٌ طاحنةٌ بين الإمبراطورية الظالمة والنمر ذي العقلية الثعلبية والعدوان الغادر بعد حسراتٍ عنيفةٍ تعانيها الإمبراطورية ندماً.. ومن تلك الرموز (ماكدونالدز).. قيل لي: إنه مكان، وأنه رمز في القصة والرواية - ولا شيئ يُرْهقني مثل رموز الروايات المُبعثرة في المعرَّب وغير المعرَّب -، وأنه عنوان شركة في (أوك بروك) بولاية (إلينوى)، ولهذه الشركة فرع في القدس.. ومن تلك الرموز (الطعام السريع من أجل الأمة السريعة).. وقد رأى الناس بأمهات عيونهم سرعة بِذْرة الشرِّ والظلم (يهود الخزر) في أرضٍ عربيَّةٍ مسلمةٍ شُرِّدَ أهلُها بالقتل والنفي وصُودِرَتْ ممتلكاتهم، ورأوا بأمهات عيونهم سرعة التفاني في حماية عدوانهم وتسويغه؛ فصار مثلاً بِناءُ المستوطنات المغتصبَة بعد الإبادات البشرية الجماعية والنفي الجماعي حقًّا مشروعاً، وكان أطفال الحجارة إرهابيين؟!!.. وكثيرٌ من الناس يرون سرعة العمل لقيام الدولة العالمية الواحدة وفق أُكذوبة هرمجدون في الرؤيا الحزقيالية؛ لأن خليفة (الحرب الباردة) جنس آخر في نصاب المعنى الاصطلاحي للحرب الباردة، وهو أشد سخونةً، وكلا الحربين واقعاً ساخنتان لا باردتان حسب المصطلح.. هذا البديل هو الهيمنة الثقافية الإكراهية لتفسلف العولمة والعلْمنة.. ومن تلك الرموز (محطة البنزين الأمريكية)؛ فَحَتْمٌ على كل قائد سيارة أن يتقن ضخَّ البنزين لسيارته بنفسه من غير مساعد؛ فإن لم يفعل فإنه مهدَّد بالضياع في حصار العولمة الذي هو خليفة الحرب البادرة (3).
* * قال أبو عبدالرحمن: أودُّ من (طويلب العلم) الذي ناقشته في مسألَتَي الأرشيفية والموسوعية أن يفقه معنى (الحرب الباردة)؛ فمثل هذه المفردات إذا لم تكن معانيها في وعي مَن يُظَنُّ أنه (عالم مسلم) فهو ناقص التخصُّص جداً يعيش في غير زمنه تعاملاً لا وُجوداً؛ فهو إِذَنْ غير فعَّالٍ ولا داعية ولا هادٍ ولا مبلِّغ؛ فكل ذلك هو رسالة العالم المسلم.. إنَّ أشهر المفكِّرين الإستراتيجيين بالولايات المتحدة (صموئيل هنتنغتون) أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد يُصرِّح من غير أدنى تحفُّظٍ أن ما بعد الحرب الباردة قُبَيْلَ سقوط الماركسية سيكون العداء المباشر للهندوس والمسلمين (4).
قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أن الثقافة الإرهابية للعَلْمَنَة والعولمة عداءٌ للبشرية كلِّها بمنطقٍ تلموديٍّ، وقد يكون العداء للهندوس مبرمجاً له في حقبةٍ لم تُحدَّد، ولكنَّهم اليوم حُلَفاء في صنع العداء نحو المسلمين في مثل باكستان.. وأصغر من ذلك اصطناع الطائفيين البدعيين في المناصب القيادية في دول ليس لها دين غير الإسلام بصفائه.. ومَن يَرْصُد المتغيِّرات من عهد ضياء الحق رحمه الله تعالى إلى الآن يجد في ذلك عبرةً لأولي الأبصار، وكان عهده على مشارف سقوط الماركسية وانتهاء الحرب الباردة.
* * * إذن خليفة الحرب الباردة حرب عسكرية طاحنة أوَّل ضحاياها العالم الإسلامي والعرب في ربيعهم الحريق منذ ابتلاع العراق!!.. ولكن دواعي هذه الحرب بالمنطق الإعلامي والأدلجة السياسية تعاونٌ عالميٌّ عادل حتميُّ الوجوب مسوَّغٌ بطلبٍ من أهل الأرض تحت مظلَّة مجلس الأمن؛ فلم يُسَلَّط علينا عدوٌّ مِن سوى أنفسنا منذ تشعَّبت بنا السُّبُل عن هُوِيَّتنا الدينية الرحيمة، وهُوِيَّة تاريخنا الجهوريِّ شاسعِ البركات؛ فكنا شِيَعاً وأحزاباً، ثم كنا شِيَعَاً وأحزاباً جُدداً زَرَعَنا تقليدُ الضعيف عسكرياً للقوي، ولا هزيمة مع وحدة الأهداف النبيلة.
* قال أبو عبدالرحمن: إن الحرب الباردة ثقافةٌ شعبيَّة بين أنصاف المثقفين(5)؛ ولما كان النفوذ الأقوى اليوم واحداً هو الإمبراطورية وحلفاؤها كانت البداية سياسة الوفاق مع الدول المتقدمة التي لم تصل إلى درجة الند، ويهم استعراض البداية التاريخية لمنطق الحرب الباردة كما يلي: ((ولقد استُخْدِم هذا المفهوم للمرة الأولى من قبل الأمير خوان مانوئيل الإسباني في القرن الرابع عشر، ثم من قبل الاقتصادي الأمريكي برنارد باروش في مطلع العام 1947، وأصبح تعبيراً شائعاً مع الصحافي والتر ليبمان)) (6).
* * سُئِلَ أحدهم بعد فساد السليقة: مِن أين جئتَ؟.. فقال مِن أهلونا!!.. فاستعظموا هذا اللحن عليه؛ فقال: أَوَلَمْ يقل ربنا تبارك وتعالى عن المتخلِّفين من الأعراب: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} (الفتح 11)؟.. وإن خرَّج له نحويٌّ - كأئمة النحو في العصر الحديث: الدكتور محمد المفدى ومحمد بن خالد الفاضل من عاصمتي المتألِّقة شقراء، وصالح المقيطيب رفعه الله بالعافية من بريدة -؛ فقال: (هذا جائز على الحكاية): كان ذلك وبالاً عليه؛ فيكون أهلوه حينئذ المتخلفين من الأعراب.. وآخَر سأله أستاذه عن كتابه: (أين الكتابُ؟)؛ فقال: (في البيتُ)؛ فقد أعجبته السجعة، ولعل نحوياً يوجهه على الاتِّباع مثل: بداية ونهاية، ومأجورات ومأزورات، وأنيس وحنيس.. وأذكَى من هذين التميمي.. قيل له: (مِمَّن أنتَ يا وَجْهَ العرب؟)؛ فقال: (من بنو تميم)، فلما استعظموا عليه اللحن قال: (والله لا أخفض من رفعهم الله)!!.
* * * قال أبو عبدالرحمن: لا معنى للحنيس في سياق الأنيس؛ وإنما هو اتباعٌ من أجل السجع أو مراعاة الفواصل إلا إنْ صحَّ ما نقله ابن الأعرابي - وهو إمامٌ ثقةٌ في نفسه، ولكنَّ محدثه قد يكون غير ثقة، وقد يكون ثقة ولكنه وَهَم، وقد يُبْنَى ما في بعض كتب اللغة على الوهم؛ لخطإ الناقل في فهم الشاهد.. وابن الأعرابي رحمه الله لم يدرك عرب السليقة على الصفاء، ولم يذكر الشاهد لنتأمَّله، ولكنَّ ثبوت ما رواه ههنا هو الرُّجحان الذي هو في درجة اليقين من ناحية العمل به - من أن (الحَنَسُ) لزوم وسط المعركة شجاعةً؛ فهذا وجهٌ من المجاز؛ لأن مَن فقد الأنيس لا بد أن يكون في مكانٍ مُوحِش؛ فهو أحوج إلى الحنيس (والحَنَس مبالغة في اسم الفاعل من جهة الاسميَّة التي هي أبلغُ من الوصف العارِض، والحنيس تدلُّ أيضاً على بلوغ الغاية من جهة دلالة صيغة فعيل).. وعن شَمِر أن (الحَوَنَّس) بالنون المشدَّدة، والنون الثانية مفتوحة هو الذي لا يضيمه أحد، وإذا قام [قام بمعنى أقام؛ لأن مآلها: ظلَّ قائماً] لا يُحَلْحِلُه أحدٌ؛ فهذا مجازٌ آخر يعني طول الإقامة مع الشجاعة، والمستوحش أحوج إلى الحَوَنَّس من الأنيس الذي يحادثه وحسب، وقد يكون شهاب الدين أضرط من أخيه.. واستدل شَمِر رحمه الله وهو ثقةٌ بِرَجَزٍ غير معروف القائل:
يجري النَّفِيُّ فوق أنفٍ أفطسِ
منهُ وعيني مُقْرِفٍ حَوَنَّسِ (7)
قال أبو عبدالرحمن: هاء منه تُشبع هكذا (منهو) لأجل الوزن، ويظهر لي أن النَّفي [بمعنى بلوغ الغاية في المَنْفيَّ] هو المخاط يعلق بظاهر أنفه؛ ووصف الحونَّس بالمقرِف لأن الذي لا يتحلحل من مكانه يُنظر إليه من معنى آخر، وهو أنه من الثقلاء.. وبهذا يترجَّح لي صحَّة المادَّة، وأنَّ الذين أهملوا مادَّة (حنس) كالجوهري وابن فارس رحمهما الله تعالى فَرَّطُوا في مادَّةٍ ثابتةٍ من لغتهم العربية.
والأهلون جمع أهل، وهو يدل على أكثر من واحد، ولا واحد له من لفظه، وقد جُمِع جَمْع تصحيح في القرآن الكريم وفي الشعر، وسوَّغ السمين الحلبي رحمه الله تعالى جمعه لأنه بمعنى (مستحقٍّ) (8)، وهو تعليل غير ظاهر العلة، ومستحق ليست في معنى أهل؛ وإنما راعوا دلالة أهل على الزوجة وحدها في العرف؛ فصارت في معنى المفرد الذي يجمع؛ وجمعوه مذكراً لأن اللفظ مُذكَّر وفيه أيضاً مراعاةُ غلبةِ معنى الأهل في حقيقة اللغة لا في العرف الطارئ على الذكور والإناث، والذكور يُغَلَّبون في مثل هذا، وهذا يغيظ الجنس اللطيف كما تغيظهنَّ نون النسوة.. ويُجمع الأهل على أهلات؛ ولعل ذلك لمعنى القلة، ويُجمع على أُهال؛ لأن المجموع فئةٌ مِن الأهل؛ فكانوا فئات.. وجمعه في القرآن جمع تصحيح كما مرَّ من سورة الفتح، وكما في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم 6)، وفي الشعر قال الزَّبيدي رحمه الله تعالى: ((جمع أهل أهلون قال الشنْفَرَى:
ولي دونكم أهلُون سِيدٌ عَمَلَّسٌ
وأرْقطُ زُهلولٌ وعَرْفاءُ جَيْألُ
وقال النابغة الجعديُّ رضي الله عنه:
ثلاثةَ أهلينَ أفنَيْتُهُمْ
وكان الإلهُ هو المُسْتَآسَا
وأهالٍ زادُوا فيه الياءَ على غيرِ قياسٍ كما جَمَعُوا ألِيلاً على ليالٍ، وقد جاء في الشعر آهالٌ مثل فَرْخٍ وأفْراخ، وزَنْدٍ وأزناد، وأنشد الأخفش:
وبَلْدةٍ ما الإنسُ من آهالها
ترى بها العَوْهَقَ من وِئالها
وأهْلاتٌ بتسكين الهاء على القياس ويُحرَّكُ قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:
فهم أَهَلاتٌ حَوْلَ قَيْسِ بن عاصمٍ
إذا أَدْلَجُوا بالليل يدعُونَ كَوْثَراً
قال أبو عمرو: كَوْثَرُ شعارٌ لهم.. وسئل الخليل: لم سكَّنوا الهاءَ في أهْلُون ولم يُحرِّكوها كما حرَّكوا أرَضِينَ؟.. فقال: لأنَّ الأهلَ مُذَكَّرٌ.. قيل: فَلِمَ قالوا: أهَلات؟.. قال: شَبَّهوها بأَرَضاتٍ، وأنشد بيتَ المُخَبَّل.. قال ومن العرب من يقول: أهْلاتٌ على القياس)) (9).
* قال أبو عبدالرحمن: رفْعُ المخفوض على قبحه أسهل مما بُلينا به من الترجمات الحرفيَّة لِلُّغات الخواجية، وقد كثُرَتْ تحشياتي حول ذلك، ولا مزيد في القبح على قولهم: إسلاموية، وإسلامويون.. ولم يتفطَّن لهذا أخي الدكتور إبراهيم التركي وهو التَّقِنُ اللوذعي؛ فقال: ((أصبحت الوهابية نقطةَ جذبٍ تأليفيٍّ لا تُكلِّف كثيرَ عَناء، وتَضمن مساحاتٍ للانتشار بين القرَّاء.. وقد بَدَتْ دُور النشر منذ سنواتٍ مهتمَّةً بطرح الخطاب الوهَّابي عبر أشكالٍ متعدِّدةٍ فيها ما هو موضوعيٌّ يُلمَس فيه صدقُ صاحبه ورغبتُه في تَجْلِيَةِ الحقائق والوثائق، وفيها ما يتماشَى مع النهج السائد لإلصاق كلِّ أخطاء الإسلامَويِّين - ورُبَّما خطاياهم (10) - بأصولِ هذا الخطاب الممتدَّة؛ لِتشمَل كلَّ ما أُسْمِي اصطلاحاً الإسلام السلفي.. إثر مفاوضات أوسلو التي تجاهلت الفرض، وأسلمت الأرض رأى شيمون بيريز في المفاوضات سهولة، وفي المفاوضين سخاءً ظنَّ بسببه أن الصهاينة إنما كانوا يفاوضون أنفسهم.. وبمنأى عن الحق التاريخي، ومن دون الدخول في اللجاج السياسي: فإن المنطق الإداري للمفاوضات القائم على مبدإ المكاسب المتبادلة يُدفن حين يتمُّ التنازل ويعم التخاذل، ويبدو طرفٌ خاسراً وآخرُ كاسراً)) (11).
* * قال أبو عبدالرحمن: إسلاموية في الترجمة الحرفية البغيضة ابتداع يريد الإفهام بأن الإسلام المفرد دين جماعة؛ فالنسبة إلى الإسلام وإليهم معاً، وصيغة إسلامويون تريد الإفهام بأن الإسلام المفرد للرجل المفرد، وبزيادة الواو الثانية يكون دين جماعة.. ومثل هذا الحمق العقلانية والشخصانية والنفسانية، ولو رجع المُتخَوِّجُون إلى لغتهم العربية لترجموا ترجمة معنوية هكذا: دين إسلامي، وإسلاميون.
* * * أسلفتُ شيئاً عن صموئيل (هنتنغتون)، وأضيف ههنا أنه محيط بفهم بيئته وبالمسار التاريخي المسيحي، وله إشراف على هموم المسلمين من خلال كتابات حديثة لعرب ومسلمين معاصرين ليسوا أهل تخصُّصٍ وفقهٍ في دين الإسلام وشريعته، وقد كتب فصلين عن الإسلام والغرب عظيمي الأهمية، وفيهما مزجٌ بين الحق والباطل، وفيهما حضورُ كل شيئ إلا الاختراق الصهيوني، وهذان الفصلان سيرهقانني في التحليل إلا عند الشروع في الشروح والذيول، وقد أتناول ذلك في الفواصل بإيجازٍ الجوامعَ المهمةَ.. والذي أُحقِّقهُ الآن أن الحريق العربي نتيجة كُرْهٍ للإسلام نفسه بثلاثة دوافع: أولها وهو الأهم أن الإسلام لا يمنح حرية الكفر والإباحية، وليس هذا وحسب، بل هو حربٌ عليهما، وهذا عدوٌّ لدودٌ - لا مجرَّد ثقيل على النفوس - لنفوس استعبدتها الشبهات والشهوات.. وثانيها تعاطف تاريخي مع سيادة دينٍ أصبح خبراً وحديثاً من أحاديث الجوى [وما أملح: وحديساً من أحاديس الـقوى]،وثالثها تضليل صهيوني في الرؤية المسيحية الكريمة كما بشَّر بها عيسى عليه السلام، وتضليل من جهة حقيقة الدين الإسلامي الذي جنَّدت الصهيونية للتشويش عليه أمثالَ تسيهر، ومرجليوث، ونولدكه.. والكره أشد لأهل الحماس على صفاء الدين من السلفيين ولهذا اجْتُزئوا بمصطلح الوهابية.
* قال أبو عبدالرحمن: إنما الرد إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم في الوحي المتلو (القرآن)، وغير المتلو وهو السنة المطهَّرة.. والسلفية هي المنهج في السيرة العملية لتلقِّي دين الله من جهة فهم دلالته وتحقيق ثبوته، وهو منهجٌ عن فهمٍ ثاقبٍ ممن عايشوا التنزيل.. والذين يتملَّصون عن السلفية يشغبون بالمصطلح؛ لأنه لم يرد به نص، وهم محمومون بالإرث الرديئ منذ العهد القرمطي في عسقلان؛ حيث انتشر تسويق البدع، وسَبَقَ ذلك تسويق السبئية وأذنابها من الباطنية أمثالَ (التغبير) وهو كنشاط ونهيق الحمير في الصمعاء، وقد رأى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن يُضْربوا بالنعال.. فأما كون مصطلح السلفية غير منصوصٍ عليه فلا يَضُرُّ لو صحَّ أنه لم ينقل بنصٍّ شرعيٍّ إذا صحَّ معناه في دين الله؛ فليس لدينا عن عرب السليقة مصطلح المفعول المطلق، ونائب المفعول المطلق، والمفعول لأجله،والفضلة، والتوجيه، وحروف الإلحاق.. بل استوحش الأعرابي من صوت الدِّيَكَة لما سمع النحوي يُلَقِّن طلابه في المسجد:
أقول لمن تُرجَى مودَّتُه
قِيَا قُوا قِي قِينا
ولكن هذه المعاني موجودة في لغة العرب بالاستقراء الحاصِر، والسلفية منصوصٌ عليها بالمعنى؛ فهي عموماً ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من السيرة الجميلة، والتعامل الراشد مع نصوص الشريعة، وهي على الخصوص من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة من نصَّ الله عليهم بالسبق والأوليَّة، وهاتان المفردتان تعني السلف، وفيهم القادة الأربعة من الخلفاء الراشدين الذين أمضوا السيرة العملية بالرضى والتسليم من الصحابة رضي الله عنهم سواء أحصل قبل ذلك اختلاف ثم تنازُلٌ أو لم يحدث؟.. وفيهم أهل الرواية والفتوى المعايشون للتنزيل بالسبق والأوَّلية، وهم معروفون تاريخياً بالتفصيل بأعيانهم واحداً واحداً، وهم معروفون إجمالاً بالوصف بأنهم مهاجرون وأنصار رضي الله عنهم في مثل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة 100)؛ فمن ضمن الله لهم الجنة بدْأً والرضوان بخبرٍ لا يقبل النسخ كيف لا يكونون قدوةً في سيرتهم العملية، ومن سيرتهم منهجُهم في فهم نصوص الشرع المطهَّر؟!.. ولكن للإنصاف أُحقِّق الأمور التالية:
-1 أنَّ مَن سوى أولئك السلف تابعون.
-2 أنَّ اتِّباعهم موزون بالإحسان الذي يعني الإتقان.
-3 أهل الحديث وأئمة الفقه الأربعة ومن بعدهم ممن أُطلق عليهم افتراء وهابية؛ فما نحن وهابيين، بل نحن نتَّبع شرع الله ونتحرى الدليل على منهج السلف.. ودين الله مكتمل قبل ذلك، وإنما فَضْلُ الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أنه صدع بعلم القرون الثلاثة الأولى الممدوحة في مجتمع تغلب عليه الأمية والجهل والخرافة؛ فصبر على الإيذاء، وثابر حتى وجد مُعيناً يقيم للدين دولته.. وكان في المجتمع علماء أفذاذ كما في أشيقر، ولكنهم لا يملكون إلا الفتوى والحكم عندما يُحكَّمون؛ وإنما الغلبة للمتديِّكين من أمراء القرى والعشائر وهم لا يرجعون إلى العلماء دائماً، وليس هناك قضاءٌ ملزم؛ وإنما هناك فتوى إذا طلبها مَن يُريد الامتثال.. أقول هؤلاء كلهم تابعون وليسوا هم السلف؛ وإنما غلب وصفهم بالسلف لحرصهم على اتِّباعِ النصوص وفق اجتهاد أئمتهم في الفقه.
-4 أنه ليس كل اتِّباع للسلف يكون إحساناً ما دام الجمهور تَبَعاً لأئمتهم في الفروع بتقليد مَن ليس معصوماً، ولهم أئمة في العقائد يقلدونهم مع أنَّ المذهب في العقائد عند أئمتهم في الفروع كالشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة (ومن هو يساويهم أو يفوقهم في العلم والفضل ممن لم تكن مذاهبهم رسمية للدول كالليث والأوزاعي وابن أبي ذئيب والسفيانين وابن جرير) أحرى بالسلفية من مذاهب أئمتهم في العقائد.
-5 أنَّه يوجد عند هؤلاء الفضلاء الحريصين على اتِّباع النصوص اتِّباعٌ لاجتهادٍ خاطئ من أئمتهم، وذلك الاجتهاد غير سلفي، وإنما هو اتِّباع بغير إتقان؛ فيجب طلب البرهان باجتهاد مُحقَّق الدلالة والثبوت بتجرُّدٍ عن التعصُّب المذهبي، واتِّباع منهج السلف الأول بإحسان؛ فنسكتُ عما سكتوا عنه من الغيب الذي لا يقع في الدنيا، ونردُّ المتشابِه إلى المحكم، ولا نقفوا ما ليس لنا به علم، ونثبت ما أثبته الشرع المطهَّر كسورتين من القرآن نصَّتا على أن القرآن الكريم مُحْدَث، ولا نفتري ما لم يأت به نص كالحكم بأنه مخلوق جزماً، أو غير مخلوقٍ جزماً ولو ترجَّح أحد الطرفين؛ لأن وصف الكلام بأنه مخلوق في عرف أهل اللغة وصف بالكذب؛ إذ يقولون: (فلان يخلق ما يقول)، فنتأدب مع شرع الله، ولا يَجُرُّنا التعصب المذهبي إلى ما هو أشنع فنزعم أن وصف الذِّكر بالإحداث ليس وصفاً للقرآن، ولا ننقض أُصولَنا فنقول: (القرآن لا خالق ولا مخلوق)، ولا نتنقَّصُ ربَّنا جلَّ جلالُه فنقول: (إنَّ أفعاله التي ليست هي مفعوله حادثة غير مخلوقة)، بل الذي حدث مفعولُه وزمنُ مفعوله بفعله الأول بلا بداية الآخر بلا نهاية؛ لأنه جلَّ جلالُه بالحدوث المزعوم يلزم حينئذٍ أنه استجدَّت له صفة كمال لم تكن له قبل ذلك.. تعالى ربي عن ضلال المتعصبين للتقليد؛ وإنما العصبية لشرع الله بفهمٍ ثاقب، وتحصيل علمٍ مُرْهِقٍ، وقلبٍ سليمٍ من الأهواء.. ونطلب البرهان على مسألة الإرجاء عند بعض الأئمة، ولا نقبل المماحكة فيما يخل بالمحكم كالتكلُّف في تأويل قوله تعالى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} (الإسراء 79) في قصةٍ مشهورة تعصَّب لها بعضهم بأسلوبٍ خطابيٍّ ومماحكةٍ في التأويل، وقد شفى وكفى الإمام ابن عبدالبر في دحضها بالجزء السادس من التمهيد في باب الدعاء، والمسائل مثل هذه كثيرة أعانني الله على الاضطلاع بها.
6- المعتزلة مثلاً من فرق أهل القبلة وُصِفُوا بالبدعة، وهذا غالب في الجملة؛ لأنه حرَّر مذاهبهم أدباء كالجاحظ، وفُسَّاق كالنظام، ومن جمع بين الفسق والرِّدة كذلك الذي قال لمَّا رأى المسلمين يركضون من العوالي إلى صلاة الجمعة: (انظر كيف فعل هذا البدوي في هؤلاء الحمير؟)؛فالبدوي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمير الذين يهرولون إلى مرضاة ربهم بصلاة الجمعة، ولقد تَقَصَّى بعض أخبارهم ابن قتيبة رحمه الله تعالى في كتابه تأويل مختلف الحديث.. وجمهورهم كالقاضي عبدالجبار، وقبله الجُبَّائيان تكلَّفوا ما ليس سبيلاً لفهم شرع الله من علم الكلام؛ فجعلوا نتائج التأمُّل الفكري المجرَّد قواعدَ تسبق المثال الذي هو معاني النص الشرعي، وجعلوها حاكمة عليه.. ولكن هذا لا يعني أنهم صِفْر من الحق، فتحميلهم العقل مسؤوليةً فيما يُعرف إجمالاً لا يستطيع أحد دفعه عن دين الله؛ لأن الله شرع لرسله عليهم السلام تحميلهم مسؤولية العقل والحس ببراهين الآفاق والأنفس، وما هو مشاهد بسبيلٍ مقيم مِن آثار الهالكين، ولم تخل الأرض من أثارة دين قائم بعد الهالكين منذ صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
* * ههنا استكمالُ ما بدأته من تحقيقٍ عن بطلان إعمال التعليل بإطلاق، وبطلان إهماله بإطلاق؛ وذلك في حديث: ((أما السن فعظم))، وما دام الإمام ابن حزمٍ رحمه الله تعالى مؤمناً بأن التعليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتراضه وانتقاده اعتراضٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفه المختلفين بأنهم كاذبون سوء أدب مع العلماء وافتراء عليهم بأنهم يكذبون؛ فتعليل تحريم السن بالعظْمية نص صريح على تحريم العظم، وأنه خارج عن عموم ما أنهر الدم؛ فهذا هو الظاهر.. وأما التعليل بمُدَى الحبشة فعلة قاصرة تمنع من التشبُّه بالكفار في التذكية بما هو غير مشروع في ديننا.. وإليكم نص الحديث.. قال البخاري رحمه الله تعالى: ((حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبو عوانة: عن سعيد بن مسروق: عن عباية بن رفاعة بن رافع: عن جده رافع بن خديج [رضي الله عنهم] قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؛ فأصاب الناس جوع؛ فأصبنا إبلاً وغنماً - وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس -؛ فعجَّلوا؛ فنصبوا القدور؛ فدُفِع النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرةً من الغنم ببعير فندَّ منها بعير، وكان في القوم خيل يسيرة؛ فطلبوه فأعياهم؛ فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش؛ فما ندَّ منها فاصنعوا به هكذا.. قال جَدِّي: إنا لنرجو أو (نخاف) أن نلقى العدو غداً وليست معنا مدىً، أفنذبح بالقصب؟.. فقال: ما أنهر الدم وذُكر اسم الله فكل ليس السن والظفر، وسأخبركم عنه: أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة)) (12).
قال أبو عبدالرحمن: تحريم السن والظفر مقطوع به، وهو مستثنى مما أنهر الدم، وأما التعليل فَيُرجَع إلى قوله: ((وسأحدثكم عن ذلك)) هل هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هو مدرج من كلام رافع بن خديج رضي الله عنه.. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وقوله فيه: (وسأحدثكم عن ذلك) جزم النووي بأنه من جملة المرفوع، وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من السياق.. وجزم أبو الحسن ابن القطان في كتاب بيان الوهم والإيهام بأنه مدرج من قول رافع بن خديج راوي الخبر، وذكر ما حاصله أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أوردوه على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله: (أو ظفر): (قال رافع: وسأحدثكم عن ذلك)، ونسب ذلك لرواية أبي داود، وهو عجيب؛ فإن أبا داود أخرجه عن مسدد وليس في شيئ من نُسَخ السنن قوله: (قال رافع)؛ وإنما فيه كما عند المصنف هنا بدونها، وشيخ أبي داود فيه مسدد هو شيخ البخاري فيه هنا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعد هذا بلفظ (غير السن والظفر فإن السن عظم.. إلخ)، وهو ظاهر جداً في أن الجميع مرفوع)) (13).
قال أبو عبدالرحمن: يعني رواية الطنافسي.. قال البخاري: ((حدثنا ابن سلام: أخبرنا عمر بن عبيد الطنافسي: عن سعيد بن مسروق: عن عباية بن رفاعة: عن جده رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فندَّ بعير من الإبل.. قال: فرماه رجل بسهم فحبسه.. قال: ثم قال: إن لها أوابد كأوابد الوحش؛ فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا.. قال: قلت: يا رسول الله: إنا نكون في المغازي والأسفار فنريد أن نذبح فلا تكون مُدىً؟..: قال: أرن [أي أزهق] ما نهر - أو أنهر - الدم، وذكر اسم الله فكُلْ غير السن والظفر؛ فإن السن عظم، والظفر مُدَى الحبشة)) (14).
قال أبو عبدالرحمن: ليست هذه زيادة ثقة، ولكنها مخالفةُ ثقةٍ للثقات من أقرانه في عددٍ من المفردات، واحتمالٌ في بعضها؛ وبما أن غرضي بيان المنهج فقط، وبما أن الافتراض شارح: فلنفترض أن التعليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ردَّ أبو محمد هذا التعليل بقوله: ((فَلَوْ أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ تَحْرِيمَ الذَّكَاةِ بِالْعَظْمِ لَمَا تَرَكَ أَنْ يَقُولَهُ، وَلاَ اسْتَعْمَلَ التَّحْلِيقَ وَالْإِكْثَارَ بِلاَ مَعْنَى في الاقتصار على ذِكْرِ السِّنِّ؛ فَهَذَا هو التَّلْبِيسُ وَالْإِشْكَالُ لاَ الْبَيَانُ.. وَنَحْنُ وَهُمْ على يَقِينٍ من أَنَّهُ عليه السلام حَكَمَ بِأَنَّ الْمَنْعَ من التَّذْكِيَةِ بِالسِّنِّ إنَّمَا هو من أَجْلِ كَوْنِهِ عَظْمًا، وَنَحْنُ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُ عليه السلام لو أَرَادَ كُلَّ عَظْمٍ لَمَا سَكَتَ عن ذلك، فَقَدْ زَادُوا في حُكْمِهِ عليه السلام ما لم يَحْكُمْ بِهِ.. وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَاقَضُوا في هذا الْخَبَرِ نَفْسِهِ؛ لأََنَّهُ عليه السلام جَعَلَ السَّبَبَ في مَنْعِ التَّذْكِيَةِ بِالظُّفْرِ إنَّمَا هو كَوْنُهُ مُدَى الْحَبَشَةِ؛ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَطَّرِدُوا أَصْلَهُمْ فَيَمْنَعُوا التَّذْكِيَةَ بِمُدَى الْحَبَشَةِ من أَيِّ شَيْءٍ كانت، وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا؛ فَإِنْ ادَّعَوْا هَهُنَا إجْمَاعًا كَانُوا كَاذِبِينَ قَائِلِينَ ما لاَ عِلْمَ لهم بِهِ)) (15).
قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ أن نقد أبي محمد ردٌّ على الشرع ما دام يرى أن التعليل بمُدى الحبشة لا يمنع من إعمال التعليل بالعظميَّة؛ لأن العظميَّة علَّةٌ غيرُ قاصرة، ومُدَى الحبشة تعليلٌ قاصرٌ على التشبُّه بغير المسلمين فيما لم يُبَح لنا؛ فإذا كانوا يُذكُّون بالظفر وبالسكين كانت التذكية بالسكين هي الحق، ولا يَرِدُ عليها محذورُ الشرع؛ لأن النصَّ واردٌ بإباحتها وبالمبالغة في إحداد شفرتها.. والمحقَّقُ أن التعليل من الصحابي الجليل رافع بن خديج رضي الله عنه، وهو في حكم المرفوع؛ فلن يمنع من الذبح بالعظم إلا بعلمٍ عنده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من المسائل التي تُؤخذ عن أهل الكتاب، والتعليل بمُدَى الحبشة صادرٌ عن علمه بحرمة التشبُّه بغير المسلمين فيما لم يُبَح لنا فعلُه، وإلى لقاءٍ، والله المستعان وعليه الاتكال.
****
(1) قال الزبيدي رحمه الله تعالى في تاج العروس 1/153/ ط م الكويت: ((والباءةُ بالمدِّ، والباءُ بحذف الهاء، والبهاهَةُ بإبدال الهمزة هاءً، والباه بالألف والهاء؛ فهذه أربعُ لغاتٍ بمعنى النكاح لغةٌ في الباءَة؛ وإنما سُمِّيَ به لأن الرجل يتبوَّأُ من أهله [زوجته].. أي يَستمكن منها كما يتبوَّأُ من داره.. كذا في العُباب وجامع القزَّاز والصِّحاح، وجعل ابنُ قتيبةَ اللغةَ الأخيرةَ تصحيفاً)).
قال أبو عبدالرحمن: وبفعلِ الترجمة أهمل المعاصرون هذا المصطلح، واستعملوا مصطلح (الجنس)، وهذا اصطلاحٌ خواجيٌّ لا تعرفه لغة العرب في مادَّة الجيم والنون والسين.
(2) قال أبو عبدالرحمن: الجزاز قصبات يتفرَّع عنها ألسنة غضَّة خضراء في طول الأصبع السبابة وفي عرضها مرتين، وهو محبوب جداً للماشية، والقتُّ قصبات كذلك يتفرَّع عنها شجيرات غضَّة وريقاتها في حجم بنان البنصر، ومدلولها اللغوي أعمُّ.. قال الزبيدي رحمه الله تعالى في تاج العروس 5/37: ((والقتُّ الإسْفِسْتُ بالكسر وهي الفِصْفِصَةُ.. أي الرَّطْبةُ من علف الدواب.. كذا في النهاية، أو يابسُهُ وبه صدَّر الفَيُّوميُّ في المصباح، وفي اللسان: (القتُّ الفِصْفِصَةُ، وخصَّ بعضُهم به اليابسة منها، وهو جمعٌ عند سيبويه، واحدتُه قَتَّةٌ.. قال الأعشى:
ويأمر لليحموم كلَّ عشِيَّةٍ
بقتٍّ وتعليقٍ فقد كاد يَسْنَقُ
وفي التهذيب القتُّ الفِسْفِسَةُ بالسين، والقتُّ يكونُ رَطْبَاً ويكون يابساً.. الواحدة قَتَّةٌ مثال تَمْرَةٍ وتَمْرٍ، وفي حديث ابن سلامٍ: فإنْ أهْدَى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِمْلَ قتٍّ فإنه رِباً)).
(3) قال أبو عبدالرحمن: يمكن حلُّ مثل هذه الرُّموز بتصفُّح كتاب (السيارة ليكساس وشجرة الزيتون / محاولة لفهم العولمة) تأليف توماس لفريدمان بترجمة ليلى زيدان / الدار الدولية للنشر والتوزيع بالقاهرة / طبعتهم الثانية عام 2001م / توزعه مكتبة العبيكان بالرياض.. قال ص479: ((وما يحدث في العالم اليوم بمعناه الواسع هو أن الجميع مجبرون على التوجُّه إلى محطة البنزين الأمريكية عن طريق عملية العولمة؛ فإذا لم تكن أمريكياً ولا تعرف كيف تضُخُّ بنفسك البنزين إلى سيارتك فإنني أنصحك بأن تتعلَّمها؛ إذْ إنَّه مع انتهاء الحرب الباردة تَعْمَدُ العولمة إلى نشر نموذج الرأسمالية الأنجلو أمريكية وقميص القيد الذهبي في العالم.. إنها تُعولم الثقافة والمقدسات الثقافية الأمريكية.. إنها تعولم الثورة الأمريكية، وتعولم محطة البنزين الأمريكية)).. وهذه الأسطر تحدٍّ لغيرة العالَم الغربي (ب) من العالم الغربي (أ)؛ لأن المؤلف من قلب واشنطن.
(4) قال أبو عبدالرحمن: كتابه من بواكير أدبيات نهاية التاريخ، ولعلي أُعَرِّج على أهمِّ ما يعني أمتنا منه، وعنوانه (صِدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالَمي)، وقد عرَّبه الدكتور مالك عبيد أبو شهيوة والدكتور محمود محمد خلف / الدار الجماهيرية الليبية / طبعتهم الأولى عام 1429هـ.
(5) انظر عن أبجديات الحرب الباردة موسوعة السياسة 2/185- 187.
(6) المصدر السابق ص186.
(7) انظر تاج العروس 15/562-563.
(8) عمدة الحفاظ 1/153/ عالم الكتب ببيروت / طبعتهم الأولى عام 1414هـ.
(9) تاج العروس 28/40-41.
(10) قال أبو عبدالرحمن: الخطأ عفو، والخطيئة إثْم لا يكون إلا عمداً.
(11) فواصل في مآزق الثقافة العربية ص 19 وص17.. والإسلام لا يكون إسلاماً ثابتاً عن الله سبحانه وتعالى ببلاغ عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم حتى يكون نقلاً عن سلف الأمة باتصال أسانيد العدول رواية، وبتلقِّيه دراية على منهجهم الذي علموه بِفَهمٍ ثاقبٍ مِن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية، وما وعوه من معايشة التنزيل كرد المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المفسَّر.. إلخ.. وكرَّر الدكتور الإسلامويون ص14 وص20 وص132.
(12) فتح الباري 9/771 / دار السلام بالرياض.
(13) فتح الباري 9/831.
(14) الجامع الصحيح 4/220 بتحقيق شعيب الأرنؤوط / الرسالة العالمية / طبعتهم الأولى عام 1432هـ.
(15) المحلى 6/139 / بتحقيق البنداري / دار الكتب العلمية.