إنّ طلحة بن عبيد الله القرشي التّميميّ، واحد من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أحياء يرزقون، كما جاء في حديث عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أبوبكر في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة ابن الجراح في الجنة» أخرجه الترمذي في المناقب.
يبين ذلك من محبة رسول الله ومن شجاعته وصدقه في الحق. وأنعم بهذه البشارة، فقد كانوا من الثابتين على الإسلام، الصادقين في النية، والقول والعمل، المتفانين في الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والدين الحق الذي جاء به، الواقفين عند حدود الله، المجاهدين في سبيل الله، المبلغين لشرع الله.
يتحدث طلحة عن قصة إسلامه، ودخول هذا الدين قلبه، فيقول: حضرت سوق بُصْرى، فإذا أنا براهب في صومعة، يقول: سَلوا أهل هذا الموسم، أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة فقلت: نعم أنا، فقال: هل ظهر أحمد بعد، قلت: ومن أحمد؟ قال الراهب: ابن عبدالله بن عبدالمطلب، هذا شَهْرُهُ الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل، ومرّة وسباج: فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال: فخرجت سريعاً حتى قدمت مكة. فقلت: هل من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبدالله الأمين قد تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة.
يقول طلحة: فحدثتني نفسي: محمد وأبو بكر، والله لا يجتمع الإثنان على ضلالة، لقد بلغ محمد الأربعين من عمره، وما جرّبنا عليه كَذِبا، وإنّه ما كان يترك الكذب على الناس، ويكذب على الله.
قال طلحة: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر، فقلت: أأنبعث هذا الرجل، قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه، فإنه يدعو إلى الحق، فأخْبرْهُ بما قال الراهب. فخرج أبو بكر بطلحة، فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله بذلك.
فلما بلغ نوفل بن خويلد، إسلام أبي بكر وطلحة، أخذهما وشدّهما في حَبْلٍ واحد، ليمنعهما عن الصلاة، وعن دينهما فلم يجيباه، فلم يرهما إلا مُطْلقَان يُصليان، وكان نوفل يُدْعى أسد قريش، ولذلك سُمي أبوبكر وطلحة: بالقرينين، وهكذا سبق طلحة إلى الإسلام، (ينظر كتاب العشرة المبشرين بالجنة د. سيد الجميلي ص120).
قال الذهبي: في وصفه: قال أبو عبدالله بن مّنْده: كان طلحة رجلاً آدم، كثير الشعر ليس بالجعد الفطط، ولا بالسبط حسن الوجه، إذا مشى أسرع، ولا يغير شعره. قال ابنه موسى بن طلحة: كان أبي أبيض يضرب إلى الحمرة، مربوعاً إلى القصر هو أقرب، رَحْبَ الصدر، بعيدا ما بين المنكبين، ضَخْم القدمين، إذا التفت التفت جميعه.
ثم قال الذهبي: قلت: كان أبو محمد سَبَقَ إلى الإسلام، وأوذي في الله، ثم هاجر فاتفق أنه غاب عن وقعة بدر، في تجارة بالشام بالجابية، وصلى على المهاجرين، وقال غيره، كانت يده شلاء وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أوجب طلحة (سير أعلام النبلاء 1: 25).
قال ابن الأثير بسنده عن موسى بن طلحة، عن طلحة، قال: سمّاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد طلحة الخير، ويوم العُسْرة: طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود. كما سمع علي بن أبي طالب يقول رضي الله عنه: سمعت أذنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يقول: طلحة والزبير جاران في الجنة «أسد الغابة 3: 86».
وجاء في الأعلام للزركلي: طلحة بن عبيدالله صحابي شجاع، من الأجواد، دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما: الصبيح المليح الفصيح، ثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، وبايعه على الموت، فأصيب بأربعة وعشرين جرحاً وسلم.
فشهد الخندق وسائر المشاهد، وكانت له تجارة وافرة مع العراق، ولم يكن يدع أحداً من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤنته، ومؤنة عياله، ووفىّ عنه دينه، قتل يوم الجمل عام 36هـ له في الصحيحين 38 حديثاً ( 3 : 331) .
جاءت أخباره عند ابن سعد، وفى تهذيب التهذيب، وفي البدء والتاريخ، والجمع بين رجال الصحيحين، وغاية النهاية، والرياض النضرة، وصفوة الصفوة، وحلية الأولياء، وفي اللباب 2: 88 يُنْسب إليه جماعة من أهل بغداد وأصفهان يعرفون بالطُلحيين؛ بضم الطاء.
ومما رواه ابن سعد في طبقاته: أن معاوية سأل ابنه موسى بن طلحة: كم ترك لكم أبو محمد من العين؟ قال: ترك ألفي ألف درهم، ومئتي ألف درهم، ومن الذهب ألف دينار، فقال معاوية: عاش حميداً سخياً شريفاً، وقتل فقيراً (3-1-158)، كما أخبر أحد مواليه: بأن غلّة طلحة كل يوم كانت ألف وافٍ، والوافي درهم وأربعة دوانق، رضي الله عنه، فقد جاءته الدنيا راغمة، وما اهتم بجمعها، وما بخل بها على المستحقين، ومع كثرة ما أفاء الله عليه من المال، فإن هذا لم يدخل قلبه، بل كان ينفق بسخاء، ويجود به على مستحقيه، ويتخوف من كثرته وعاقبة المساءلة عنه، فقد أخرج الترمذي عن ابنه موسى بسنده، عن أبيه أنه أتاه مال من حضرموت سبع مائة ألف، فبات ليلته يتململ، فقالت له زوجته: مالك؟ قال: تفكرتُ منذ الليلة، فقلت: ما ظن رجل بربّه، يبيت وهذا المال في بيته؟ فقالت: فأين أنت عن بعض أخلائك، فإذا أصبحت فادْعُ بجفانٍ وقصاعٍ فقسِّمْهُ. وهذا نموذج في سخائه ورغبته الخير في الإنفاق واستجابته إذا فُتح أمامه باب.
فقال لها: رحمك الله أنت موفقة، بنت موفق، وهي أم كلثوم بنت الصديق، فلما أصبح دعا بجفان فقسَّمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى عليّ منها بجفنة، فقالت له زوجته: يا أبا محمد أمِنَّا. كان لنا في هذا من نصيب؟ قال: فأين كنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقي، قالت: فكانت صُرة فيها نحو ألف درهم (سير الأعلام 1: 31).
وقد اعتبره الكناني في فقهاء السلف، واعتنى بما برز من فقهه، وأورد له أكثر من أربع عشرة، مسألة فقهية، برز أكثرها في البيوع لأنه تاجر، يرتاد الأسواق، فقد رُوي له قوله: لا يبيع حاضر لباد، دلوهم على السوق، دلوهم على الطريق، وأخبروهم بالسلع، وبمثل هذا قال عمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، والحجة في هذا حديث رواه مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نهى أن يبيع حاضر لباد، وقد سأل طاووس ابن عباس: ما قوله: حاضر لباد؟ قال: «لا يكون له سمسار» معجم فقه السلف 6: 49)، والمراد بالحاضر المقيم في البلد، والباد الجالب.
وفي بيع ما لم يره، فقد ثبت أن عثمان باع من طلحة أرضاً بالكوفة، فقيل لعثمان: إنك قد غُبنت، فقال عثمان: لي الخيار لأني بِعتُ ما لم أر. وقال طلحة: كلاً بل لي الخيار، لأني قد اشتريت ما لم أر، فحكّما بينهما جبير ين مطعم، فقضى بأن الخيار لطلحة لا لعثمان (السابق 6: 77)، قال الشعبي: الخيار للمشتري، إن شاء أخذ وإن شاء ترك.
وفي تعليل حديث الربا: كان ابن عباس وابن مسعود يقولان: لا ربا فيما كان يداً بيد، أما طلحة بن عبيد الله فقد صح عنه، إباحة بيع ذهب بفضة، يقبض أحدهما، ويتأخر قبض الآخر، إلى أجل غير مسمى (السابق 6: 88).
وفي الصرّاف استجاب لتوجيه عمر بن الخطاب عندما أقنعه بالدليل الشرعي، فقد أقبل مالك بن أوس بن الحدَثَان يقول: من يصرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيدالله، وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك ثم جئنا إذا جاء خادمنا نُعْطِك ورقك، فقال عمر: كلا والله لتعطينه ورقه، أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الورق بالورق ربا، إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» رواء مسلم (السابق 112).
وكان كثير من كبار الصحابة يشددون في الوصية وكتابتها في حالة الصحة: منهم طلحة بن عبيدالله والزبير ابن العوام، وغيرهم، كما حبّس عثمان وطلحة والزبير وعلي بن أبي طالب وعمرو بن العاص، دورهم على بنيهم، وضياعاً موقوفة، وغيرهم (السابق 6: 187) في الأحباس.
وقد كانت سيرته -رضي الله عنه- واسعة الانتشار فالذهبي في سير أعلام النبلاء، استقاها من 35 مصدراً، وأطال في ترجمته ووثقها، وفي شجاعته، في حديث مطول بأنه صبر في القتال حتى قطعت أصابعه في يوم أحد مع رسول الله بعد قتل أصحابه الأحد عشر، فلما قطعت أصابعه قال: حسّ ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون» (سير أعلام النبلاء للذهبي 1: 27).. رضي الله عنه وأرضاه.