مر في الحلقة الثانية أن تجويز بيع الفلس بالفلسين كان قولا قديما لمالك، وأنه هجره، وبنى جميع أبواب المعاملات على أساس أن هذا ربا، وتم سرد أمثلة لذلك، ومر أيضا أن الشافعي يجوز هذا البيع بشرط ألا تكون الفلوس سكة متداولة تداولا عاما، وأن المروي عن أحمد في ذلك روايتان، وتبين أن الثابت عنه تحريم هذا البيع، وأن الرواية الثانية خطأ من بعض الأصحاب، فعلم بذلك أن القول الأول في تكييف الفلوس لا يصح أن ينسب إلى أحد من الأئمة الأربعة على إطلاقه.
القول الثاني في المسألة: إنها أثمان، فوجب أن يثبت لها ما يثبت للنقدين، فلا يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا ولا نساء، ولا بيعها بالذهب أو الفضة نساء.
وهو قول مالك عند التحقيق، والراجح في مذهبه لدى أصحابه، وقد مر أن هذا هو الذي بنى عليه مالك قوله في غالب البيوعات، والرواية الثانية عن أحمد، وهي المنصوصة عنه، ورجحها أكثر الأصحاب، منهم: أبو الخطاب، وابن تيمية، بل هي الرواية التي لا يصح عنه غيرها، على ما مر تفصيله، وهو قول محمد بن الحسن من الحنفية، بل ذكر ابن تيمية - كما في مجموع الفتاوى 29 - 468 - أنه إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
ثانيا: مناقشة أدلة المكيفين للفلوس:
تبين فيما مضى أن أبا حنيفة والشافعي لم يلحقا الفلوس بالدراهم والدنانير، فجوزا بيع فلس بفلسين، لكن أبا حنيفة صرح بوجوب التقابض، وأما الشافعي فقد ظهر من ألفاظه أنه إنما جوز ذلك في وقت لم تكن فيه الفلوس سكة مشتهرة، ودليلهما في عدم جريان الربا فيها ذلك أمران:
أحدهما: أن الفلوس - في الأصل - لم تكن أثمانا، بل كانت عروضا، وأما الثمنية فعارضة لها، وما لم يكن ثمنا بالخلقة ؛ فإن ثمنيته تتبدل ساعة فساعة، وهذه حجة أبي حنيفة وأبي يوسف.
واعترضه ابن الهمام الحنفي بقوله - في فتح القدير 6-169- 170 -: «ولا يخفى أن هذا إنما هو في الملاحظة، أما في الخارج ؛ فهي ثمن مستمر ما استمر الاصطلاح عليها، ولذا قال الإسبيجابي: الصحيح أن عقد الشركة على الفلوس يجوز على قول الكل؛ لأنها صارت ثمنا باصطلاح الناس، ولهذا لو اشترى شيئا بفلوس بعينها ؛ لم تتعين تلك الفلوس، حتى لا يفسد العقد لهلاكها».
يريد: أن احتمال تبدل ثمنيتها ممكن، وهذا معنى الملاحظة، لكن هذا الاحتمال لا يغير كونها ثمنية حتى يقع التبدل، وحديثنا عن كون اصطلاح الناس قد جعلها ثمنية، فهذا لا يخالف فيه أبو حنيفة، وأبو يوسف ؛ لأنهما يريان أن بيع شيء بفلوس معينة لا يوجب تعين تلك الفلوس، كما أن الدنانير والدراهم لا تتعين، بل ينوب بعضها عن بعض، ولو كانت عندهما سلعا لتعينت.
الثاني: أن علة ربا الفضل في النقدين هي الوزن - عند أبي حنيفة - وغلبة الثمنية - عند الشافعي - مع اتحاد الجنس - عندهما - والمجانسة قد وجدت هنا، لكن لم توجد العلة الثانية - سواء جعلناها الوزن أو جعلناها غلبة الثمنية - فلا يتحقق الربا؛ فإنها انتقلت من الوزن إلى العد، ولم تشتهر سكة في كل البلدان، ولا في غالبها.
وأجاب ابن تيمية عن حجة أبي حنيفة: بأنها مبنية على أن علة الربا في مثل ذلك الوزن، ومما يدل على بطلانها اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، فإنه يعني إسلام الذهب في البر - مثلا - وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن ؛ لم يجز هذا.
وأما حجة الشافعي ؛ ففيها تعليل بأن الفلوس لم تشتهر في زمنه، ويكفي في الجواب عن هذا أن نثبت اشتهار الفلوس أو ما حمل عليها، كالورق النقدي، واشتهار الأوراق النقدية مما لا يحتاج إلى دليل.
ولا وجه لمن فرق بين الفلوس والنقدين بأنه يشترط في بيع النقدين الحلول والتقابض، سواء كانا ثمنا، أو مصروفين، أو مكسرين، وأن الحلول والتقابض لا يشترطان في بيع الفلوس إلا في حال كونها سكة ؛ فإن هذا التفريق غير مؤثر ؛ لأن العبرة بحالها زمن البيع، فالريال - مثلا - محمول على الفلوس، وهو - ونحوه من العملات الورقية - مستودع الثروات اليوم، فهل يقال: إنه لا يعد نقدا لأن كثيرا من الورق مما في الصحف والكتب وفي غير ذلك غير نقد؟
وأما دليل القول الثاني: فهو أن العلة في النقدين إن كانت مطلق الثمنية كما في قول مالك - على ما مر بيانه - أو غلبة الثمنية - كما في قول الشافعي - كان هذا وصفا مناسبا؛ لأن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال، أي: أن الثمني ما تقدر به مالية الأعيان، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فكما تقدر مالية الأعيان بالدراهم والدنانير ؛ تقدر بالفلوس - أيضا - فكانت أثمانا، والمراد أنه متى صارت الفلوس نافقة - تروج رواج الأثمان - فإنها تلحق بالأثمان، وإذا كانت أثمانا صار فيها هذا المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل ؛ لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية؛ فإن بيعها بجنس الأثمان يكون حينئذ صرفا.
وإن كانت العلة فيهما الوزن كما في قول أحمد؛ فإن النفوق في الفلوس وجعلها معدودة لا يخرجها عن معنى الوزن، فإن عروض الثمنية لها لا يخرجها عن المعيار الشرعي لها، كما أن الدراهم والدنانير انتقلت من الوزن المطلق إلى العد، فلم يخرجها ذلك عن معنى الوزن، وإنما يكون العد دليلا على الوزن.
وخلاصة ذلك: أن الفلوس ليست بأثمان عند أبي حنيفة والشافعي، بل هي أثمان عند مالك وأحمد، فعلى قول مالك وأحمد لا يجوز فيها التفاضل ولا النساء، وأما الشافعي ؛ فالصحيح أن الأوراق النقدية في وضعها الراهن لا تتنزل على الفلوس في زمنه، لأنه أثبت أن قيم المتلفات في زمنه إنما هي الدراهم والدنانير، لكون ثمنية الفلوس آنذاك ضعيفة، فإذا سَلَّمَ المخالف هنا أن الأوراق النقدية في زمننا هي قيم المتلفات؛ لزمه إثبات ذلك مذهبا للشافعي، وحينئذ يجري فيها الربا على مذهبه، وأما على قول أبي حنيفة فيجوز فيها التفاضل دون النساء، فيجوز بيع الريال بالريالين يدا بيد، ولا يجوز نسيئة، وأي عاقل في زمننا هذا يقبل أن يتعامل مع البنوك أو غيرها ببيع الريال بالريالين حالة؟
المسألة الثالثة: «إلحاق الورق النقدي بالفلوس»:
قد أسلفنا أن القول بسنديتها، أو بدليتها، أو عرضيتها، لا يستقيم مع الواقع؛ لأن عدم التزام مصدرها بقيمتها، وإثباتَ الأحكام بقبضها ؛ ينفيان رأي السندية، ولأن في إثبات خلوها من الغطاء الفعلي إبطالا لرأي البدلية، ولأن كونَها قصاصات عديمة النفع يقصي رأي العرضية، فلم يبق إلا القولُ بثمنيتها، وحملُها على الفلوس، وإذا كان العلماء المتقدمون اختلفوا في إجراء الربا في الفلوس ؛ لزم أن ينزل ذلك الخلاف على الأوراق النقدية، فمن أخذ بمذهب أبي حنيفة أجرى فيها ربا النسيئة فقط، أي: حرم ربا النسيئة، ومن أخذ بمذهب الشافعي لم يجر فيها الربا أصلا، أي: فيجيز التفاضل والنسأ، ومن أخذ بمذهب مالك وأحمد أجرى فيها الربا بنوعيه، بمعنى: أنه يحرم التفاضل والنسيئة.
وهذا ليس دقيقا ؛ فإن أبا حنيفة أجرى فيها ربا النسيئة لأنها موزون، والوزن عنده علة للربا، وأما الأوراق النقدية فليست بموزون، فكان الأصل - عند النظر الأولى - أن لا يجري فيها ربا الفضل ولا ربا النسيئة في مذهبه، لعدم الوزن فيها، بل يجب أن يكون هذا مذهبا لأحمد ؛ لأنه يجعل الوزن علة في نوعي الربا، وهذا النظر الأولي يغرد به من لم يغرد في سرب العلماء، فإن أبا حنيفة لم يجوِّز الدرهم بالدرهمين لأن الثمنية في الدراهم تحول دون تعينها، وما لا يتعين لا يصح بيعه، ولما كانت الفلوس مترددة بين الوزن والعد، وكان العد إما مع ثمنية وإما مع عدمها، كان إقبال المتبايعين على بيعها بالتفاضل - عَدًّا - هجرا لمعنى الثمنية، وهجرا للوزن، واعتبارا للعد فقط، وإنما اعتبر العد لأن المعدود سلعة حقيقية، فإن الفلوس نحاس، وأما الريالات - ونحوها - فلا وزن فيها، بل هي جامعة للثمنية والعد، وتفترق عن الفلوس بأنها ليست في ذاتها سلعا، فمن زعم أنه يهجر ثمنيتها ويكتفي بعدديتها كان مكابرا ؛ لأنه لا طائل من عدد بلا معدود مطلوب، ولهذا فثمنيتها لا تفارقها إلا بأمر سلطاني، وإذا تبين أنها لا تفارق الثمنية علمنا أن مذهب أبي حنيفة يقتضي أن لا يصح بيع بعضها ببعض، لأن الثمني لا يتعين.
وأما أن إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس يقتضي في مذهب أحمد عدم جريان الربا فيها بنوعيه؛ لأنه أجرى الربا في الفلوس لأجل الوزن، ولا وزن في الأوراق ؛ فهذا مما أحرج بعض حنابلة عصرنا ؛ لأنهم يقررون في كتبهم ودروسهم أن علة الذهب والفضة الوزن، دون تعرض إلى ثمنية، ولما جاءت العملة الورقية، وصارت مستودعا للثروات ؛ أشكل عليهم أمرها، إذ ليست موزونا فتلحق بالنقدين، ولا مكيلا فتلحق بالأطعمة الأربعة، ورأوا أن أموال الناس بجملتها مُودَعَةٌ في هذه العملة ؛ فكيف يُنْهَى صاحب الذهب عن الربا، وهو قادر على بيعه، والمراباة بقيمته من الوَرَق ؟ فصاروا في حرج عظيم.
والتحررُ العلمي يقتضي - قبل التأمل - إما أن ينفوا جريان الربا فيها، وإما أن يقلعوا عن تعليل ربوية النقدين بالوزن، مع أن المحققين من أهل المذهب لا يدركهم هذا الحرج، لأنهم يأخذون بالرواية الثانية عن أحمد، فيعللون لربا النقدين بغلبة الثمنية، وقد حملهم هذا القول على أن يأخذوا بالرواية الأخرى عن أحمد فيما يتعلق بالفلوس، وهي أنها أثمان، وهذه الرواية عن أحمد في الفلوس هي المنصوصة - على ما مر بيانه - ورجحها أكثر الأصحاب - كأبي الخطاب، وابن تيمية، وغيرهما.
والقول بمقتضى هذه الرواية هو الموافق للأدلة - على ما مر تفصيله - وهو الذي يأخذ به بعض المنادين بنفي الربا في الأوراق النقدية، وهم لا يعلمون أن الأخذ به يحرم تحريما قطعيا التفاضل فيها، فهذا القول هو الموافق للأدلة، وهو الأظهر حسب ما تبين.
وعلى الرغم من تمكن تلك الرواية من الأدلة ؛ سأتحدث عن الرواية الأولى التي تعلل بالوزن على فرض التسليم بها، وهي روايةٌ - مع أنها تخالف ما أجمعوا عليه من إسلام النقدين في الموزونات - لا تقتضي أن تكون الأوراق النقدية مجردة من علة الربا، لأن أحمد حين قال: «يشبه الصرف» دل على أن الفلوس نائبة مناب النقدين وإن تخلت عن الوزن إلى العد ؛ فإنه جعلها أثمانا، فكأنه يفرق بين المقيس والنائب، فالفلوس عنده ثمنية غير موزونة، فإذا حملنا عليها الأوراق النقدية؛ وافقتها في المعنى، فصارت ثمنية غير موزونة، فامتنع فيها الربا، كما امتنع في الفلوس، فأين الحرج؟
وأما من أخذ بمذهب مالك ؛ فإنه يجري الربا بنوعيه في الورق النقدي، وقد صرح مالك بذلك حين قال: «ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين ؛ لكرهتها أن تباع بالذهب والوَرِق نظرةً».
وأما أن الأخذ بمذهب الشافعي يقتضي عدم جريان نوعي الربا فيها ؛ فهو غير صحيح ؛ لما مر من أن الشافعي علل بعدم اشتهار الفلوس أثمانا في كل البلدان، فهل الورق النقدي الآن مما لا يعم في البلدان؟
والحاصل: أن بيع الريال بالريالين فاسد بمقتضى مذهب أبي حنيفة، وربا بمقتضى مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، فكيف يقول قائل - كما في الجزيرة (14128) -: «هذه الثمنية التي في فلوس اليوم - إطلاق الثمنية - هي الثمنية المقصودة في الفتوى القائمة اليوم، والمخالفة لما عند المذاهب الأربعة»؟
ومما أحب الإشارة إليه هنا أن ما ينسبه أخونا الدكتور حمزة السالم إلى الشيخ السعدي مخالف لما نشره الشيخ في صحيفة حراء سنة 1378، وأُثْبِتَ في «الفتاوى السعدية»(337 - 349)، فالدكتور يقول - كما في الجزيرة (14176): «فهناك من أهل الفتوى المعتبرين قديما الشيخ ابن سعدي والذي نص على أنه لا يضر فيها الزيادة والنقص والقبض مع عدمه، أي الفضل والنسيئة»، فهذا صريح في أن الشيخ في رأيه يجوِّز التبايع بالريالات فضلا ونسيئة، فلو جاء شخص إلى البنك فابتاع منه مليون ريال، على أن يردها بعد سنة بزيادة مائة ألف ريال ؛ لكان ذلك جائزا في رأي الشيخ على حسب ما ينقل الدكتور، وهذا قد أنكره الشيخ بشدة، لأنه جوز التفاضل، ومنع النسيئة، فإنه عرض في تلك الصحيفة ثلاثة أقوال عن الورق النقدي على طريقة المناظرة: «قال أحدهم: إنه عرض، وله حكم سائر العروض، وقال آخر: إنه نقد، له حكم سكته، وقال ثالث: إنه سند، وبيع للدين»، ثم أبطلها كلها، ثم قال: «فقال لهم رابع ممن رأى تكافؤ الدليلين دليل من يراه نقدا، ودليل من يراه عروضا: أرأيتم لو أن متوسطا توسط بين القولين، وسلك طريقا بين الطريقين، بأن حكم للأنواط حكم النقود في بيع النسيئة، فمنع من بيع العشرة - مثلا - باثني عشر إلى أجل، لأن هذا هو ربا النسيئة الذي أجمع المسلمون على تحريمه، واتفق المانعون أيضا من ربا الفضل على أنه أشد حرمة، وأعظم إثما من ربا النسيئة، وأجاز بيع بعضها ببعض حاضرا، ويدا وبيد، سواء تماثلت أم لا «إلى أن قال: «فهذا القول المتوسط، والتفصيل المذكور يمكن القول به، مع مراعاة المعاني الشرعية «، ثم قال: «ويؤيد هذا أن بيع الأنواط بالأنواط إلى أجل هو بعينه الربا الداخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، فمفسدة بيع عشرة أنواط باثني عشر إلى أجل لا تنقص عن مفسدة بيع عشرة دراهم أو دنانير باثني عشر إلى أجل، والمفسدة التي حرم الشارع الربا لأجلها خصوصا ربا النسيئة لا يمكن من له أدنى مسكة من عقل وتمييز أن ينكر وجودها بأكملها في بيع الأنواط بعضها ببعض، أو بأحد النقدين نسيئة، وتكاد تكون من الضروريات، والمقصود أنه لو سلك سالك هذا التفصيل... كان أقرب إلى الصواب»، وقال في فتوى أخرى مثبتة في «الفتاوى السعدية»(334): «ونهاية الأمر أن يحكم عليها أحكام الفلوس المعدنية، يمنع أن يباع حاضر منها بمؤجل، وما سوى ذلك فجائ«إلى أن قال: «وهذا القول هو الذي تكثر عليه الدلائل، وبه يحصل التعامل والتوسعة فيها»، ثم قال: «نعم، الذي لا يجوز شيء واحد، وهو أنه لا يحل أن يبيع مثلا مائة منها حاضرة بمائة وعشرين مؤجلة، كما لا يجوز ذلك في الفلوس المعدنية على أصح الأقوال»، فلا أصرح من هذا في تحريم ربا النسيئة في الأنواط، التي هي الورق النقدي، نعم قال السعدي قبل هذا النص بثلاثة أسطر: «تَعَيَّنَ القول بأنها بمنزلة العروض، وبمنزلة الفلوس المعدنية، وأنه لا يضر فيها وفي المعاملة بها الزيادة والنقص والقبض في المجلس وعدمه»، يريد أنه يجوز ترك التقابض إذا لم يوجد تفاضل، إذ ليست الأوراق عنده في معنى الذهب والفضة، فلا يجب فيها المناجزة إلا مع التفاضل، لأن اجتماع هذين الأمرين يجعل صورة الربا التي في النقدين متحققة في الأوراق النقدية، ألا تراه قال: «نعم، الذي لا يجوز شيء واحد، وهو أنه لا يحل أن يبيع مثلا مائة منها حاضرة بمائة وعشرين مؤجلة»؟
المسألة الرابعة: التفريق بين قولنا: «هذا قول الأئمة الأربعة»، وقولنا: «هذا المقرر في المذاهب الأربعة»، أو «هذا في المذاهب الأربعة»، أو «في مذهب الأربعة».
وذلك أن الإمام من الأئمة الأربعة إن صرح بحكم، ولم يرد عنه ما يخالفه، فهو قول يعبر عنه بأنه «قول الإمام»، أو «مذهب الإمام»، وهذا هو الذي يعنيه المصنفون بقولهم في حق الأربعة: «هذا قول الأئمة الأربعة»، أو «مذهب الأئمة الأربعة».
وإن ورد عنه قولان، أو روايتان ؛ اجتهد أصحابه في اختيار أحد القولين، وإحدى الروايتين، فإن اتفقوا على اختيار إحدى الروايتين، قيل: «إنها مذهب الإمام «، أو «قول الإمام»، وإن اختلفوا؛ صار كل فريق يسمي ما اختاره «مذهب الإمام «أو «قوله»، فيقولون: «هذا قول الإمام»، أو «مذهبه»، و»هذا قول الأئمة الأربعة»، أو «مذهبهم»، ولهذا تجد في كثير من الأحوال أنهم يقولون: هذا هو المذهبُ عند فلان، وليس المذهبَ عند فلان، كأن يقال: هذا هو المذهب عند الموفق، وأما المذهب عند المجد فهو كذا كذا، وقد يترتب على ذلك نسبة مسألة للإمام مع أنه تراجع عن القول بها.
وربما يحتاج أصحاب الإمام إلى رأيه في مسألة ما، فلا يجدونه، فيجتهدون في التماس رأيه إما تخريجا على مسألة مشابهة - ويتجوز الحنابلة فيسمون المُخَرَّجَ روايةً، وربما احتاط بعضهم فسماه روايةً مُخَرَّجَةً - وإما بالنظر إلى أصوله، وما ينتج عن ذلك النظر يسمى وَجْهًا، والناس في التخريج وفي النظر متفاوتون، فمنهم من يُوَفَّقُ إلى مراد الإمام، ومنهم من يبتعد قليلا، وذلك راجع إلى معرفة قصد الإمام في المسألة الأصل، وكل من خَرَّجَ روايةً، أو قال بقول على وفق أصول الإمام يرى أن ما توصل إليه هو المذهب، فإذا أراد أحد أن ينسبه قال: «وهو المقرر في مذهب الإمام فلان»، أو: «هذا جائز في مذهب الإمام فلان»، ولا يقول: «هو مذهب الإمام فلان»؛ فإن هناك فرقا بين قولك: «الجواز مذهب فلان»، وقولك: «هذا جائز في مذهب فلان»، ولكنك تجد من المصنفين من يقول: «في المسألة قولان: الجواز، كمذهب أبي حنيفة ومالك، والمنع، كمذهب الشافعي وأحمد»، مع أنه قد لا يكون عن الأئمة فيه نقل، ولكنه أراد المقرر في مذاهبهم، وهذا قليل.
إذا تبين هذا فإن للأصحاب طرائق في التعبير عن ذلك، فقد تجد في «الفروع» و»الإنصاف»: «وعنه كذا، وقيل: كذا»، يعبران عن القول الثاني بنحو: «وقيل»؛ ليدلا على أن القول الثاني إما رواية مخرجة، وإما قول لأحد الأصحاب، وليس رواية منصوصة، وقد يعبر أحد الأصحاب عن هذا المعنى بقوله: «فيه وجهان: المنصوص كذا»، فيسمي الرواية وجها ؛ لأن بعض الأصحاب أخذ بها، ويتجوز بعضهم فيقول: «وعنه روايتان» مع أن إحداهما مخرجة.
بل إن أحمد قد يتوقف في مسألة ما، فيجتهد الأصحاب في البت في حكمها، لأن العامي المقلد له لا بد له من بت، فيختلف نظرهم فيه، فيلحقها بعضهم بالأخف مما يشابهها، ويلحقها آخرون بالأثقل، ويجعلها فريق ثالث على التخيير، وكل فريق ينسب قوله إلى المذهب، مع أن أحمد صرح بتوقفه.
وتجد كثيرا في كتب الأصحاب نحو: «وهو جائز في الأصح»، فيظن القارئ أن هذا ترجيح بين روايتين عن أحمد، وهو في الواقع ترجيح بين قولين للأصحاب، وأما إذا أرادوا الترجيح بين الروايتين فيقولون: «وهو جائز على الأصح»، وهذا وهذا يختلفان عن قولهم: «والأصح كذا «؛ فإن المراد بنحو هذا أن في المسألة قولين، قد يكونان روايتين، وقد يكونان وجهين، وقد يكونان رواية ووجها، وكل هذا ينسب إلى المذهب، ولا ينسب إلى أحمد إلا ما يذكر أنه منصوص، وأما قولهم: فيه احتمالان، فليس من المذهب في شيء.
فبمعرفة هذه الدقائق يتميز صاحب الفن من الدخيل، ومن لم يتبينها ؛ خبط خبط عشواء، فجعل كل ما ينسب إلى المذهب منسوبا إلى الإمام، وهذا من أعظم الجهل، والله تعالى أعلم.
bejady@yahoo.com