لم تكن مظاهرات مئات من الأمريكيين في نيويورك بالقرب من شارع المال الشهير حدثاً عابراً في حياة المجتمع الأمريكي، ومن شاهدها عبر شاشات التلفاز خارج الولايات المتحدة. إنه حدث يحمل معاني رمزية كثيرة، واللافتات والشعارات التي كان يحملها المتظاهرون كانت تعبِّر بشكل
صريح ومختصر عن دلالات كبيرة، ليس لدى الشعب الأمريكي فحسب، بل عند كل متابع لتأثيرات الإنفاق المالي الضخم من الإدارات الأمريكية المتعاقبة خدمة لمصالح إستراتيجية للمتنفذين والمستفيدين من هذا الإنفاق المالي على حساب حياة المواطن الأمريكي أولاً، ثم الشعوب الأخرى ثانياً، وهي شعوب تتقاسم العيش مع الأمريكيين في هذا الكوكب، وتضرّرت من السياسة المالية للولايات المتحدة بالقدر الذي تضرَّر به الشعب الأمريكي.
ولئن رفع المتظاهرون شعارات تندد بالفساد المالي والجشع في الاقتطاعات المتتالية والضخمة من الميزانيات الاجتماعية الأمريكية، وشعارات أخرى تؤكّد أن غضب المتظاهرين يمثّل 99% من مشاعر الأمريكيين تجاه التلاعب بأموال دافعي الضرائب مقابل 1% فقط من المستفيدين من ذلك الفساد والجشع (أفراداً ومنظمات وشركات)، فإن ما استوقفني كثيراً هو لافتة كتب عليها War Street بدلاً من اسم شارع المال العالمي الشهير Wall Street, وهو تحريف له دلالة كبيرة في المبنى والمعنى. فأما مبنى الجملة فلا يكاد أحد يفرق في نطق الاسم الحقيقي للشارع بعد أن حرّفته اللاَفتة. فمفردتا Wall و War متجانستان في الكتابة والنطق، لكن دلالة كل واحدة منهما مختلفة ومتباينة. هذا الاسم المحرّف يحمل معنىً حقيقياً، وهو أن (شارع المال) أصبح (شارع الحرب)، وهو شعار أطلقه المتظاهرون كناية عن نهب أموال الخزينة الأمريكية والأموال المقتطعة من دافعي الضرائب والتي تذهب في تمويل الحكومات الأمريكية على حروب كلفتها الكثير، ورفعت سقف المديونية والعجز في الميزانية إلى أرقام فلكية دفع ضريبتها المواطن الأمريكي، إذ انعكست على تدني مستوى المعيشة، والخدمات، بذريعة حماية المواطن الأمريكي واستقرار أمنه، وضمان رفاهية عيشه!
من يشاهد الفيلم القصير (القاتل الاقتصادي) الذي بثه عددٌ من المواقع الإلكترونية العالمية (ومنها اليوتيوب)، سيتعرّف على جزء يسير من المعاني العظيمة عن (شارع الحرب War Street) الذي رفعه المتظاهرون في نيويورك، وسيحتفظ التاريخ بتفسيرات أخرى حتى تسربها وسائل الإعلام الجديد، لكن بعد أن يترنح المواطن الأمريكي ويسقط ضحية الفساد المالي والجشع المخيف والإنفاق العسكري الضخم على حروب مفتعلة تمتص خزائن الأرض، داخل الحدود السياسية للولايات المتحدة وخارجها؟!
إن مجتمعاً ديموقراطياً يؤثّر فيه المواطن بصوته الانتخابي، ويمثّل الرأي العام عامل ضغط قوياً على صانع القرار السياسي والعسكري مثل المجتمع الأمريكي لا بد أن تكون حقائق الأمور لديه واضحة ليغيّر الواقع إلى ما يراه حقاً، وإن التأكيد على حقيقة أن شارع وول ستريت أصبح شارع الحرب بتمويله العمليات العسكرية الضخمة خارج الولايات المتحدة، وتمويل الصفقات الاستخباراتية بما يخدم إسرائيل واللوبيات الصهيونية والجماعات السياسية المتطرفة في المجتمع الأمريكي إن ذلك كله وسيلة من وسائل بيان الحقيقة للرأي العام الأمريكي ليواصل مسيرة الوعي السياسي في إسقاط سياسات أضرت بالمواطن الأمريكي أولاً وبالمواطن العالمي في كل مكان.
أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام ورئيس مركز الفكر العالمي عن السعودية
prof.msb@hotmail.com