في مقالة الأسبوع الماضي استعرضنا أحد الأفلام المهمة في تاريخ السينما العالمية لمناقشته قضية تكون عقل الإرهابي وتحدثنا عن فحوى فيلم (خمس دقائق في الجنة) الذي استعرض اقتحام أحد أعضاء منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي منزل أحد الشباب الكاثوليكيين

وقتله أمام شقيقه الصغير ذي الثمان سنوات والذي لم يتمكن من نسيان فكرة الانتقام من قاتل أخيه ومحاولة منتج تلفزيوني وبعد 33 سنة من الحادثة من الجمع بين القاتل الذي خرج من السجن بعد إحدى عشر عاما وانظم للجماعات الخيرية وبين شقيق المغدور.

يستعرض البرنامج التلفزيوني في جزئه الثاني كيف أن أخ المغدور يعترف بعدم قدرته على نسيان فكرة الانتقام ولذا ورغم حرص الطاقم التلفزيوني على المصالحة السلمية للطرفين إلا أن أخ المغدور يأتي إلى المقابلة التلفزيونية وهو يحمل سكينا كان يعتزم أن يقتل بها القاتل في غفلة من الطاقم لكنه اضطرب وارتبك فغادر المكان بسرعة.

لكن القاتل يتصل به بشكل شخصي بعد ذلك رغبة في حل النزاع ويلتقيان في المنزل القديم المهجور الذي تمت فيه الجريمة حيث يجري صراع جسدي ينتهي بسقوطهما معا من النافذة وإصابتهما معا فيغادران ويبدأ أخ المغدور في التفكير في جدوى القتل ويتذكر بناته الصغيرات فيتصل بالستر ليقول له الكلمة التي طالما انتظرها القاتل منذ استيقظ من تخديره الفكري I WILL LET IT GO !!!!!

أي خلاص؟؟؟ سأترك الموضوع... لقد تعبت... قالها في اللحظة التي وصل فيها إلى سلام مع نفسه ومع قاتل شقيقه بقبول الصفح عنه.

بعدها يتركنا الفيلم في حيرة مريعة مع فكر القتل والإرهاب الأيدلوجي وعاصفة الأسئلة الأساسية حول وجودنا كبشر وهل نحتاج أن نصل إلى القتل حتى نثبت اختلافاتنا وهل هناك من نقاط للالتقاء على مستوى الوجود الإنساني قبل البحث عن نقاط الاختلاف؟؟

الفيلم يحمل رسالة عميقة لنا في الداخل المنضوي على كل أنواع الجماعات الإرهابية المتطرفة. بدءاً من هؤلاء الصغار الإرهابيين مروراً بالشباب الذين تم تجنيدهم وإرسالهم كقطع متفجرة خالية من كل مستقبل إنساني ليتم استخدامهم في العمليات الإرهابية في مختلف الدول الإسلامية.

شبابنا وصغارنا هنا في السعودية من أوائل الضحايا ممن تمت السيطرة عليهم فكرياً وأيدلوجياً في مصانع بعض الخلايا الدينية والمدارس والتجمعات حيث تم غسل أدمغتهم بلا إنسانية الآخر وبعدم جدواه لفساده وخروجه عما يجب كما يرونه. هو الأمر الذي نلمسه أيضا في كثير من البلدان الإسلامية مثل أفغانستان واليمن والعراق حيث يتم تجنيد الصغار بدءاً من سن السابعة وخاصة في جرائم التفجير فما الذي سيخسره صغير السابعة أو العاشرة أو الثالثة عشر أمام وعود المغفرة والقبول الإلهي والإكبار من القادة على الشجاعة والإقدام ؟؟. وكما ذكر الجبوري في تقريره تحت عنوان: أطفال القاعدة ينشرون الرعب في عائلاتهم وينفذون المهمات بحرفية الكبار والذي نشر في جريدة الحياة الجمعة 19 نوفمبر 2010 العدد 17395 من أن تنظيم القاعدة قام بإنشاء تنظيمات مختصة لأغراء الأطفال تحت أسماء رقيقة مثل طيور الجنة وفتيان الجنة وأشبال الجنة وهي معسكرات تدريب خاصة بالأطفال انتشرت في معسكرات سيطر عليها التنظيم في السنوات الأخيرة مثل معسكرات ديالي والأنبار والمدائن في جنوب بغداد فضلا عن بعض تلك المنتشرة في المناطق الحدودية المحاذية لسورية غربا وإيران شرقا.

تردد أدبيات ما يسمى (بالفكر المنحرف) مصطلح التغرير الفكري ببساطة وتجريد وننسى أن التغرير لا يعني فقط غسل أدمغة المنتمين إليه بقبول الطروحات الدينية أو القبلية أو السياسية المتطرفة للجماعة التي انتمى إليها أي أن التغرير لا يقتصر على البعد السياسي فقط بل على ثلاثة أمور لهما نفس الأهمية كما السيطرة الأيدلوجية وتساعد على إحكام السيطرة الفكرية على المنتمي وهي:

أولاً: الاستسلام الفكري والتخلي عن المنطق الذاتي أو النقدي في رؤية الأشياء بحيث يصبح المنتمي بعد فترة عاجزا عن تحكيم رؤية خاصة وذاتية للقضايا المطروحة مما يحتم بالضرورة تقبل وجهات وأطروحات الجماعة بغض النظر عن واقعيتها.

ثانياً: التقليل من البعد الإنساني للأطراف الأخرى الداخلة في الصراع بحيث يتم عبر السيطرة الفكرية والشخصية تعليم الفرد المنتمي كيف ينفي الصفة الإنسانية عن الآخر ويجرده من بعده الإنساني الذي يمنحه صفة المشترك لما بين الناس كبشر وفي المحصلة أن الآخر لا وجود ولا أهمية له ولا بعداً إنسانيا لوجوده ومن ثم يصبح التخلص منه سهلا ولا يشعر بالذنب على المستوى الشخصي والإنساني.

ثالثاً: من الناحية السيكولوجية يحمل المصطلح بعدا مهما يلبي حاجة الصغار لقبول الذات والحصول على اعتراف الآخرين وهو بعد مهم في بناء الشخصيات الإنسانية تحدث عنه العالم النفسي المشهور إبراهام ماسلو في بنائه لهرم الاحتياجات الإنسانية والتي تبدأ بالحاجات الأساسية التي لا يمكن لنا أن نعيش بدونها مثل المأكل والمشرب والمسكن وتتدرج لإشباع حاجات أكثر تعقيدا من الناحية النفسية والعقلية مثل الحاجة إلى تقدير الذات والحصول على احترام الآخر وهو ما يحتاجه الصغير والمراهق ويجده بسخاء لدى هذه الجماعات بل ولدى بقية الفئات الاجتماعية في المجتمع حين يبدي بعض مظاهر التدين في الشكل الخارجي والملبس غير عابئين بالتعبئة الفكرية التي تقف خلف هذه المظاهر ولكن بما يحقق شروط الاعتراف والتقدير الاجتماعيين الذين يبحث عنهما هؤلاء الصغار داخل هذه الجماعات.

عالم الإرهاب في عصرنا الحديث عالم خطر ومعقد بكل ما تعنيه هذه الكلمة لكنه أيضا عالم ذكي يتعلم من تجاربه في اقتناص ضحاياه وواقعنا المحلي خير دليل علي ذلك!!