عندما عثرت مصادفة على مسلسل (الحارة).. الذي كانت تبثه إحدى القنوات الفضائية المصرية طوال شهر رمضان قبل الماضي -بين شهري أغسطس وسبتمبر من عام 2010م-، ترددت في متابعة حلقاته.. بداية، نظراً لجهلي بأسماء القائمين عليه وفي مقدمتهم مخرجه الأستاذ سامح عبدالعزيز،
وعدم معرفتي في المقابل بذلك الحشد الهائل من الممثلين الذين لعبوا أدوار قصصه الكثيرة المثيرة المتداخلة.. إلا من ثلاثة منهم على وجه التحديد: الفنانة الكبيرة المبدعة الأستاذة (كريمة مختار)، والفنانة الكبيرة الخلف لجيل الرواد.. الأستاذة (سوسن بدر)، والفنان الكبير والرائع دائماً الأستاذ (حمدي أحمد).. لكن إلحاح «المقدمة» و»الخاتمة» الموسيقية الغنائية التي كتب كلماتهما الأستاذ أحمد عبدالله وأداهما ببراعة درامية تفوق في تأثيرها براعة أعظم مطربي الدراما وأشهرهم في مصر.. الأستاذ (طارق الشيخ)، كانتا تقودانني.. للالتصاق بتلك الفضائية لمتابعة حلقات (المسلسل)، والتعرف على تفاصيل حياة تلك (الحارة) ومآسيها وأحزانها التي بدت واضحة مرعبة مخزية جلية.. من رثاثة مشاهدها، وفقر أمكنتها، وتواضع ملابس أبطالها.. بمن فيهم «أمين الشرطة» القذر الذي أراد أن يشتري (شرف) خطيبته بسطوة النجمتين اللتين سيعلقهما على كتفيه عند تخرجه.. والتي أوجزتها مقدمة المسلسل وخاتمته أفضل وأروع إيجاز، وهي تقول.. بدءاً:
(حارة جوة حارة والدنيا ملطشة
أيامها الحلوة.. راحت، وساعات الفرفشة.
أيامنا الغريبة.. حياتنا
بقت عجيبة.. وآخر نعكشة!!
آه يا زمان يا مفركشنا
ماسبتناش يوم لعشنا
عمال يوماتي تفركشنا
حتة.. حتة، وتاكل فينا
الظلم ع البحري.. عايشنا
والراحة على البال.. محايشها
رايح وجاي.. تلعب بينا
وفي أيامنا الغريبة.
حياتنا بقت عجيبة وآخر نعكشة)!!
.. ثم وهي تقول.. نهاية:
(نعيش ونحلف بحارتنا
حبيناها وحبتنا
وفي حضنها كده لمتنا
عشنا وماشفناش حلوتها
يا خسارة.. تهنا في زحمتها
آه لو رجعت لحالتها.. نقدر نسامح بعضينا)!!
لأكتشف في نهاية الخمس عشرة حلقة الأخيرة منه، والتي تابعتها ليلة بليلة.. بأنني كنت أشاهد مسلسلاً سياسياً كاشفاً مرعباً من الدرجة الأولى، وإن لم يفه أحد من أبطاله الكثر بكلمة سياسية واحدة.. من تلك التي تتردد على ألسنة شرفاء السياسيين أو حتى تلك التي يتنطع بها أدعياؤهم عن الحرية والعدالة والتعددية ونزاهة الانتخابات، فكل هذا ترف (سياسي) لا يشغل بال أهل (الحارة) وقاع بؤسهم، وحرقة نضالهم اليومي من أجل لقمة «فول» وحبة «طعمية» وقطعة من «الباذنجان المخلل» عند التنويع.. أو نضال بعضهم الخرافي المضحك بحثاً عن كنز مطمور غير موجود أصلاً في إحدى شقق الحارة، بأمل أن «يقب» به هذا البعض على وجه الدنيا.. عند العثور عليه، فلم يتم العثور عليه.. بل وذهبت أموال تلك (الأم) المسنة المسكينة التي ادخرتها طوال أيام العمر لأداء فريضة الحج.. سدى، قبل أو بعد أن يكتشف (ابنها) بأن بعض تلك الأموال التي سرقها منها هي نقود بالية، لم يعد يستخدمها أحد.. كنقود أهل الكهف، أو أن مؤلف المسلسل (الأستاذ أحمد عبدالله).. آثر - بذكاء ودهاء وحنكة - السلامة بالابتعاد عن السياسة ومفرداتها جملة وتفصيلاً.. حتى ينجو مسلسله من حذف بعض مشاهده أو حظره كليا.. أو عدم إنتاجه أصلاً، ليفوز بما هو أهم.. في النهاية: الوصول بـ»حال» تلك الشريحة الموجعة من حارات مصر المهمشة والمنسية إلى الناس.. وهو ما تحقق له بأعلى درجات الكفاءة والإتقان، مستفيداً من سياسة الطناش و(الخصران) التي اعتمدها الرئيس المخلوع (حسني مبارك).. طوال فترتي رئاستيه الأخيرتين.. لكل ما تنشره الصحف الحزبية وتتهاجى به مقراتها من مقذع القول عن (الرئيس) وعصابته، أو تبثه الفضائيات الخاصة عنه أو عن فكرة توريثه المضحكة لابنه، أو عن فساد وتهتك نظامه إجمالاً.. دون رد أو توضيح منه أو من سكرتارية مكتبه، وكأن الأمر لا يعنيه أو يعنيها، وقد اكتفى خلالها بالتنقل وبكل الأبهة من قصر العروبة إلى منتجع شرم الشيخ.. ومن (المنتجع) إلى (قصر العروبة) ثانية، وهو مطمئن البال والخاطر بأن حزبه ومجلسيه لـ»الشعب» والشورى ووزير داخليته الحديدي (الحبيب العادلي).. سيذودون عنه، ويضمنون له الاستقرار والاستمرار.. بل و»التوريث» لابنه أيضاً، فليس في يد أحد من خارج (دولته) وأجهزتها الغليظة من يستطيع أن يفعل شيئاً، أو يحرك ساكناً في بر المحروسة (مصر)!!.
وهكذا.. وصل هذا المسلسل الاجتماعي الحارق إلى الناس دون أن يقول كلمة سياسية واحدة، ولكنه قدم حالة مصرية موجعة مفجعة لأناس طحنتهم وتطحنهم الحياة كل ساعة.. لا يراها أحد إلا وقال: (لابد لهذا الليل.. من آخر)!!.. بينما النظام ودولته يعيشان في نعيم أبراجهم العاجية، و»الرئيس» يضع في إحدى أذنيه عجيناً وفي الأخرى طيناً.. فلا يسمع شيئاً من كل تلك الآهات التي تنطلق في كل ليل من أفواه وصدور أولئك المطحونين!!
***
ربما تكون تلك (الحارة) في أطراف (الدويقة) أو (المناصرة) أو (الدرب الأحمر).. أو في غيرها من أحياء القاهرة الشعبية الفقيرة، والمكتظة بالبشر والأحلام واليأس.. إذ لم أتبين ذلك رغم حرصي عليه، لكنها تبقى في البداية والنهاية.. جزءا من مصر وترابها وأحيائها وحاراتها، ويبقى أهلها جزءا من شرائحها وإن كانوا فقراء كادحين، مطحونين، مغلوب على أمرهم.. ويبقى المسؤول عنها وعنهم هو (دولة الرئيس) ونظامه، ولا نريد أن نذكِّر بما قاله (ابن الخطاب) رضي الله عنه (لو عثرت بغلة في العراق.. لحسبت عمر مسؤولاً عنها، لِـمَ لم يسوِّ لها الطريق)؟! فقد غدا ذلك في ثقافتنا اليوم.. وكأنه قول مأثور، نحفظه ونردده.. ولا نريد أن نفهمه أو نعيه..؟! فـ»الرئيس» ونظامه.. ليسا مسؤولين فقط عن أحياء مصر الراقية في الزمالك والمهندسين والدقي والعجوزة وجاردن سيتي والمعادي حيث يسكن «البهوات» و»الأفندية» و»القطط السمان» الذين امتلأ بهم عهده.. ولكنهما مسؤولان عن كل مصر وأحيائها وحاراتها الشعبية المنسية.. ومن بينها هذه (الحارة)، التي أطلق صرختها المفزعة الدامعة الرائعة الأستاذان: (سامح عبدالعزيز).. مخرج المسلسل، و(أحمد عبدالله).. كاتبه، بصورة درامية كئيبة صادقة.. بعد العهد بها في الأعمال الدرامية ذات القيمة.
***
لقد شكل مسلسل (الحارة).. والذي لم يُعرض بطبيعة الحال لا على عتبات نقابة الصحفيين أو في مواجهة نقابة المحامين حيث الأضواء والمراسلون الصحفيون ومندوبو وكالات الأنباء ومصوروها.. وقوداً إضافياً رغم ذلك لتلك الحرائق التي كانت تشتعل في قلوب الملايين من الوطنيين المصريين الشرفاء.. المقهورين بما آل إليه حال مصر العظيمة، ليزودها، ويزود طلائعها الثائرة في حركتي (كفاية)، و(السادس من إبريل)، وجموعها الشابة العظيمة من بعد في الخامس والعشرين من يناير بـ»إلهام» من البؤس المصفى الذي كانت تتجرعه (الحارة).. حمل الرئيس ودولته في نهاية المطاف إلى (منصة التنحي).. ليغادر في الحادي عشر من فبراير (2011م) هو ودولته وحزبه ومجالسه غير مأسوف عليهم، وتستعد مصر لاستقبال فجرها الجديد.. المستلهم من عرابي ووقفته عام 1892م، وسعد ووفده في 1919م، وعبدالناصر وثورته في الثالث والعشرين من يوليه عام 1952م: فجر الخامس والعشرين من يناير من عام 2011م.. بكل بهائه وآماله المرتقبة.
dar.almarsaa@hotmail.com