|
الجزيرة - وهيب الوهيبي
أكد وزير العدل الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى أن الأخذ ببدائل السجن في المخالفات اليسيرة أنفع وأنجع إذ إن الاتجاهات الحديثة لا ترى خيار السجن إلا الملاذ الأخير وتحديداً في الجرائم الكبرى، وخصوصاً ما يتعلق منها بحماية الأمن الوطني وحماية المجتمع من بذور الفساد وتأثيرها السلبي ومدها السيء، فالسجن مهما أحيط بالرعاية والعناية فإنه لا يخلو من سلبية الحرمان من التئام شمل الأسرة وفقدان عائلها، فضلاً عن تكاليفه الباهظة على الدولة، وعدم كفاءة عنصر الردع والزجر فيه، حيث أوضحت الدراسات الاجتماعية ارتداد السجين على مجتمعه بأسوأ من حالته الأولى ليتحول واقعه إلى الإسقاط على المجتمع والتمرد عليه والرغبة في الانتقام، وكثيراً ما يكون وضعه قبل السجن أحسن حالاً من هذا التحول المقلق، والأنسب أن تخصص السجون لأرباب الجرائم الذين يُخْشَى على المجتمع من تأثير سلوكهم المنحرف على أفراده في انتظام سلمهم الاجتماعي واستتباب أمنهم وسكينتهم.
وأشار وزير العدل عقب افتتاحه أمس السبت ملتقى الاتجاهات الحديثة في العقوبات البديلة الذي تنظمه الوزارة ضمن مشروع الملك عبدالله ابن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء، بحضور عدد كبير من أصحاب السمو والمعالي وجمع كبير من المشاركين والمهتمين في الميدان القضائي والحقوقي والاجتماعي والأمني من داخل المملكة وخارجها. أِشار أن هذا الملتقى يأتي في إطار المحاور العلمية لمشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء، مشيراً إلى أنَّ محاور المُلتقى تستهدف تسليط الضوء على المستجدات والنظريات الحديثة في مادته ودراستها وفق النصوص والمقاصد الشرعية مع الأخذ في الاعتبار الجوانب الاجتماعية والنفسية والأمنية والاقتصادية، مؤملاً بأن تحقق توصياته طموح الجميع وأن تجد طريقها نحو الإفادة منها من خلال تظافر الجهود وتعاونها فيما بينها.
وأكد وزير العدل على أنه يتعين على الجميع كل فيما يخصه القيام بمهماته ومسؤولياته نحو هذا الموضوع المهم، بدءاً من الدراسات الاجتماعية والنفسية بمسوحاتها الاستطلاعية الموثقة، ومروراً بتجاوب الادعاء وتفاعله الإيجابي معها، وانتهاء بالتعاطي الأمثل من لدن القضاء في استصحابه لمستجدات الظروف والأحوال وأهمية مراعاتها في الأحكام وفق مقاصد الشريعة المطهرة.
وأضـــاف أنَّ مصطلح العقوبات البديلة يأتي في سياق استعارة اللفظ الحقوقي الدارج، بغية تقريب المقصد من تنظيم هذا الملتقى وإلا فإن العقوبات الشرعية وإن دخلت في نطاق التعزير فهي في جميع أحوالها عقوبات أصلية، وليس في تشريعنا الجنائي بدائل لأصوله فكلُّ ما يحقق المصلحة الشرعية يعد أصلاً في العقوبة.
وأوضح الوزير أن للظروف والأحوال اعتبارات في الشرع المطهر فمتى تحقق مقصد المشرع الحكيم كان العَدْلُ، جرياً على ما استقرت عليه القاعدة الشرعية بأنه متى ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي وجه كان فَثَمَّ شرع الله، ولا يعني هذا أن نتوسع في الخروج عن النص، فهذا الأمر مقيد بالمساحة المسموح بها للقاضي في سلطته التقديرية في الوقائع التعزيرية.
وقال معاليه: بأننا يجب أن نتحقق عند أخذنا بمفهوم العقوبات البديلة من شروط مهمة تتعلق باحترام النص الشرعي، وعدم الخروج عنه، أو مخالفة مقصده بأي وجه كان، مع ضمان حق المجني عليه، وحق المجتمع، والأخذ بعين الاعتبار حكمة التشريع من التأديب ولا سيما ما يتعلق بمقصد الزَّجْر والرَّدْع، مَعَ إِعْمال فقه الموازنات وفق قاعدة المصالح والمفاسد، ومن ذلك عدم دخول أرباب الجرائم الكبيرة والخطرة في الخيار البديل.
وتابع وزير العدل في كلمته الافتتاحية أن أحكام الشريعة: أحكام أصلية لا تبعية فيها ولا بَدَلِيَّة وهي النصوص التي بينت حدود الشرع ونظمت أحوال البلاد والعباد ورتبت المصالح، ونقصد بالتبعية هنا المجاراة والمحاكاة، والبدلية إحلال حكم محل آخر بالخيار المجرد على هيئة الأصيل والرديف، ولا نقصد بالتبعية التراتبية فهذه ترد في بعض الأحكام كما في حرمان القاتل من الميراث، ولا بالبدلية الانتقاليّة كما في الانتقال للدية عند العفو عن القصاص، وفي إزاء تلك الأحكام الأصلية أحكام تأييدية لحماية تلك النصوص، وهذه الأخيرة نوعان: منها ما هو مقدر شرعاً يجب الالتزام بنصه في التطبيق، ومنها ما هو مُفوَّض لم يحدد الشرع مقداره ومرده السلطة التقديرية للقاضي، ما لم يكن نص نظامي أو مبدأ قضائي.
وأكد الوزير العيسى أنه من حيث التأصيل والتكييف فإن العقوبات الشرعية ولا سيما ما يدخل منها في توصيف العقوبات البديلة مؤيدة بالدليل الشرعي تجريماً وعقوبة، وأن هذا يُرَدُّ به على المعترض فيما يورده من عدم توافر النص الشرعي أو النظامي المُجَرِّم والمُعَاقِب في عدد من القضايا التعزيرية سواء كانت أصلية أو بديلة، عملاً بقاعدة: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، إلى هذا أوضح معاليه بأن منطقة التعازير في التشريع الإسلامي تمثل مساحة واسعة لا حجر فيها على القاضي ما لم يكن نص نظامي أو مبدأ قضائي يُلزمه بالوقوف عنده، وأكد بأن هذا شاهد على سعة الشريعة ويسرها ومرونتها في كافة موادها ولا سيما المادة الجنائية.
وتابع: قد يحصلُ الوهمُ لدى غير المُخْتصِّين في التَّشريع الجنائيّ الإسلاميّ والقانون الوَضْعيّ عند سماعه بمصطلح العقوبات البديلة متصوراً بأنها بدائل للأحكام النصية وأن الذي حمل على تجاوزها إنما هو التجاسر على أحكام الشريعة أو على أحسن الأحوال التطبيق الخاطئ لمفاهيم السياسة الشرعية أو الإخلال بمفاهيم وضوابط تغير الفتاوى والأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، ويزول هذا الوهم الخاطئ إذا عُلم أن العقوبات البديلة لا تنسحب إلا على أبواب التعازير فحسب، وهي ما لا نص شرعي في تقدير عقوبتها، بل مردها -إن لم يكن نصاً نظامياً أو مبدأ قضائياً- إلى اجتهاد القاضي وفق سلطته التقديرية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد مراعياً في ذلك ما سبق ذكره من ضمانات وشروط استعمال هذه السلطة، مع أهمية استصحاب مقصد إصلاح الجاني وإعادة تأهيله لحظ نفسه وأسرته ومجتمعه على ضوء تلك الضمانات والشروط، وثمة تصنيفات وفروقات أخرى تتعلق بالسن والجنس والسوابق، أما مَنْ لم تُجْدِ معه العقوبة البديلة فمرده إلى العقوبة الأصلية لتأصل الجرم في نفسه ودخوله في دائرة الخطر على مجتمعه.
وعلق الوزير العيسى على عقوبة الجلد تعزيراً وقال: إنها في غير الحدود شأن اجتهادي متاح لناظر القضية، وقد يأخذ بها القاضي لظروف وملابسات وقد يتركها لظروف وملابسات أخرى على أنها لم تقدر في الشرع الحكيم إلا في قضايا لها طابع الخطورة على سلامة الأفراد والمجتمعات، ولم تُشرع فوق الجلدات العشر إلا في حدٍّ من حُدود الله، والمقصود بها الحواجز الحدية لمنع الدخول في محظورات الشرع النصية أمراً ونهياً، ولا يقصد بالنص النبوي الوارد فيها الحدود المقدرة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله»، وهذا مسلم به ولا مجال للنقاش فيه، ومن هنا يتبين أن هناك فروقاً بين ألفاظ الشريعة النصية والمصطلحات الفقهية وإن كانت قليلة، ومنها هذا المصطلح وقد حمل عليها في المصطلح الفقهي تطور الدلالة الشرعية في بعض الألفاظ، نظراً لكثرة الاستعمال المقيّد لها، أو أنها استعملت بمعنى العقوبة المقدرة في بعض النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله».
بعد ذلك ألقى مدير الشؤون الجنائية والعفو في وزارة العدل بالمملكة المغربية الدكتور محمد النباوي كلمة المشاركين قدم فيها شكره لوزارة العدل على تنظيم هذا الملتقى الذي يهدف إلى تفعيل الأدوار الإيجابية لبدائل السجون والتي ستعود بفوائد جمة للسجين وأسرته وكافة أفراد المجتمع والوطن.
عقب ذلك عبر رئيس ديون المظالم الشيخ عبدالعزيز بن محمد النصار عن شكره الجزيل لوزير العدل على هذا الملتقى المهم مؤكداً في كلمته أن مجال العقوبات تقتصر على العقوبات التعزيرية فقط حيث ترك الشارع لولاة الأمر ومن في حكمهم الحق في تحديد العقوبات المناسبة لكل جانٍ وكل حدث وقال يجب ألا يغيب عنا أمران: إن إيجاد بدائل للعقوبات ليس المقصود بها تهوين العقوبة إضافة إلى السعي لإيجاد عقوبات بديلة ولا شك أن ذلك ليس مختصاً بأهل الشريعة وإنما على مستوى جميع المختصين من أهل العلم.
بعد ذلك أكد رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد أن الشريعة الإسلامية مستمدة من الكتاب والسنة ولا مانع للقاضي من سلطات تقدير واسعة ينظر فيها.
وبين الشيخ ابن حميد أن العقوبة في الشريعة الإسلامية جمعت بين العدل والرحمة بين الناس وحمت المجتمع من شر ضعاف النفوس وحمت الجاني من التمادي في إجرامه.
وأضاف: إن التعزير بابه واسع في الاجتهاد وليس توقيفياً حيث أعطت الشريعة ولاة الأمر وأصحاب الاختصاص الحرية في اختيار العقوبة المناسبة لحالة الحدث نفسه ودعا في ختام كلمته إلى التواصل مع الجهات ذات الاختصاص ببدائل العقوبات والاطلاع على التجارب المحلية والعربية والعالمية في هذا المجال.
من جهته عبر مدير الإدارة العامة للسجون اللواء علي بن حسين الحارثي في كلمته عن شكره وزير العدل لإقامة هذا الملتقى والجهد المبارك، موضحاً سعادة رجال الأمن غامرة بمثل هذه الملتقيات التي نلتقي فيها مع نخبة المجتمع وقيادات المجتمع وخاصة قيادة العدل التي هي مناط تكافل المجتمع وحماية المجتمع، وبين الحارثي أن المديرية العامة للسجون عمدت منذ العام 1422 على الاهتمام بهذا المبدأ فعملت وثيقة سميت بوثيقة الرياض مع المختصين في دول مجلس التعاون وأقرها وزراء الداخلية في دول المجلس وتضمن بدائل العقوبة أثناء التحقيق ولها عدد من البدائل، وبدائل العقوبة أثناء ما بعد المحاكمة ثم عملت المديرية العامة للسجون على إقامة ندوتين في عام 23 وعام 28 خصصتا لبدائل السجن وخرجت توصيات عدة صدر من خلالها توجيه مقام خادم الحرمين الشريفين حفظه الله قبل عامين لصاحب السمو الملكي الأمير نايف النائب الثاني وزير الداخلية ولرئيس المجلس الأعلى للقضاء ولمعالي وزير العدل بالأخذ بهذا الأمر وفي ختام الحفل قدم وزير العدل دروعاً تذكارية للمشاركين ورؤساء الجلسات.