إذا كانت قناة الجزيرة قد شاركت في إسقاط رؤوس أنظمة في «الربيع العربي» فهي أيضا أسقطت رأس إدارتها، فالثورة تأكل أبناءها كما يقولون. فهل حدث تغير لوضع القنوات الفضائية الإخبارية منذ بداية أحداث الثورات العربية؟ أو على وجه الدقة على تغير ترتيب هذه الفضائيات؟
نعم، يبدو أنه تغير، لكن إلى أي درجة؟ من الصعب معرفة نتائج الاستطلاعات والمسوح التي تعملها الشركات المختصة فهي في الغالب سرية، يتم توفيرها فقط للعملاء من المحطات، وقد تقوم هذه الأخيرة بالكشف عنها إذا ناسبتها النتائج أو تفرج عن جزء من النتائج حسبما تشتهي، لكننا لا نعدم المؤشرات وإن كانت قليلة.
فقناة الفرنسية 24 تدعي أن موقعها تحسن كثيراً في المغرب العربي وأصبحت في موقع الصدارة، وفقا لشركة تي إن إس الدولية، وهي من الشركات التي يتعاقد معها كثير من الفضائيات، بهدف التعرف على نسب المشاهدة الخاصة بها. فبالنسبة لتونس يشير الاستطلاع، أن القناة الفرنسية كانت الأولى الأكثر مشاهدة (78%) من التونسيين الذين تابعوا الأخبار السياسية خلال ثورة الياسمين، يليها الجزيرة (75%) ثم قناة نسمة (49%) وقناة الوطنية (42%). وادعت قناة فرنسا 24 وفقا لهذا الاستطلاع، أنها القناة الثانية (14%) الأكثر مشاهدة من قبل قادة الرأي بعد الجزيرة (17 ?)، والثالث الأكثر مشاهدة بين السكان بعد قناة الجزيرة وقناة العربية.
طبعا ثمة إجماع قبل الثورات العربية على أن قناة الجزيرة ثم قناة العربية تتصدران القنوات الإخبارية في العالم العربي (محمد أحمد مدير عام شركة تي إن إس في مصر وشمال أفريقيا). وكان وضع الفضائيات الإخبارية الأجنبية الناطقة بالعربية مثيراً للشفقة، فالمؤشرات الإحصائية القليلة تؤكد أنها فشلت في جذب الجمهور العربي. ودرجة الفشل يتراوح من عادي كما في قناة بي بي سي البريطانية والقناة الفرنسية، إلى فشل ذريع في بقية الفضائيات الإخبارية الأجنبية، بل إن بعضها لا تجد من يعرف عنها شيئا، وقد تقع عليها بمحض الصدفة، فتصاب بالدهشة وتتساءل لماذا تصر بعض الدول على تمويل هذه القنوات التي لا أحد يعرف مكانها؟
وفي استطلاع للرأي قام به مركز جالوب الأمريكي عام 2007 أوضح أن 30% من السعوديين يشاهدون قناة «الجزيرة» بينما لا يشاهد قناة «الحرة» سوى 2% فقط، وبعد ذلك تشير بعض الإحصاءات أن النسبة لم تعد تتجاوز 1% لقناة الحرة!! وقبل الثورات العربية، سبق لمارك لينش (مدير معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة جورج واشنطن) ومؤلف كتاب «أصوات من الجمهور العربي الجديد»، أن ذكر أنه من غير المحتمل أن أيا من تلك القنوات يمكنها التقاط حصتها من السوق الإعلامي أو تشكيل الرأي العام العربي. وذلك ما دعا عدداً من المشرعين في واشنطن للمطالبة بإلغاء قناة الحرة لأنها تكبل دافع الضرائب الأمريكي دون جدوى!
وفي تقديري أن هذه الفضائيات الأجنبية يمكنها أن تتميز على الفضائيات العربية بشيء واحد وهو عدم مجاملة الأنظمة العربية، لكن الذي كان يحصل قبل الثورات العربية هو أن تلك القنوات كانت تجامل هذه الأنظمة لكيلا تمنع مراسليها من التواجد في أراضي الدول العربية، أو يتم حجبها إن هي فتحت ملفات مزعجة لتلك البلدان، بل إنها تأخذ موافقة الأنظمة على تحديد أسماء مراسليها، حتى أن البعض يشير إلى أن هناك قوائم سوداء لبعض الأسماء تُمنع من المشاركة بالحوارات، تفادياً لغضب بعض الأنظمة! هذا جعل البعض يتهم تلك القنوات بالنفاق!
كما أن الوضع قبل هذه الثورات لم يكن ساخناً ولم تكن هناك خفايا تستطيع من خلالها القنوات الأجنبية أن تفاجئ الجمهور العربي بها وتجذبه إليها، ومن ثم لم يعد متلهفاً لأخبار تأتيه من الخارج. ومما جعل الفضائيات الأجنبية في وضع تنافسي غير مريح مع الفضائيات العربية هي فكرة المؤامرة! فلهذه الفضائيات رسالة تتضمن تلميع صورة بلدانها، وبالتالي هي قنوات موجهة حكومياً بشكل مباشر أو غير مباشر. وليس في ذلك ما يعيب، فهو جزء من التثاقف العالمي في زمن العولمة، إنما الخلاف على درجة التوجيه الحكومي والتركيز السياسي. فإذا كانت أمريكا والصين مثلاً تركزان على الرسالة من منظور سياسي فإن الرؤية الأوربية تختلف، كما أوضحت ناهدة نكد المشرفة على القناة الفرنسية «أن فرنسا يسودها مفهوم أن الثقافة لها أيضاً أهمية كبيرة مثل السياسة والاقتصاد.. والرؤية الفرنسية لا تتبع أي مشروع سياسي بعينه..».
الزبدة، إلى أين وصلت الفضائيات الآن؟ نتف الاستطلاعات المتناثرة والمؤشرات الإحصائية لأجزاء من الدراسات التي جمعتها تشير إلى أربع فضائيات تتقدم المشهد العربي: الجزيرة، العربية، بي بي سي، الفرنسية 24. وفي تقديري، الوضع تغير كثيرا بعد الثورات العربية، وأرى أن قناتي الفرنسية وبي بي سي البريطانية تقدمتا بوضوح، والأغلبية من عشرات ممن سألتهم قالوا إنهم في وقت الأخبار المتأزمة يفضلونهما على الجزيرة والعربية! كما أنه من المتوقع ظهور فضائيات بمصداقية جديدة في البلدان التي ظهرت بها الأنظمة الجديدة، وليس من المستبعد أن نرى بعد سنة أو سنتين فضائية أو فضائيتين تنافسان الفضائيات الأربع المتقدمة.
يبدو أن الفضائيات الأجنبية قد تحررت من الخوف أو المجاملة للأنظمة العربية، ولم تعد تواجه ضغطا كالسابق، فالأنظمة منشغلة بشعوبها وملتفتة لفضائياتها العربية، وصارت أقل اكتراثا بالفضائيات الأجنبية. وهنا أصبحت الفضائيات العربية تحت ضغط كبيرأكثر من السابق، بينما الفضائيات الأجنبية تحررت من غالبية هذه الضغوط مثلما تحرر الشارع العربي أو قل المتلقي العربي، الذي بدأ وعيه السياسي يتقدم وصار أكثر انتقائية في اختيار الفضائيات، وفي اختيار البرامج داخل الفضائيات.
قناة الجزيرة ترى في نفسها أنها منحازة لخط الشعوب، وهذا لا غبار عليه، لكن أن تنحاز حتى في نشرة الأخبار، وأن تتحول هذه النشرة إلى سماع ما ترغب به الشعوب وليس سماع ما حدث بالفعل، فسوف أحرك قرص القنوات إلى موقع آخر. المطلوب في نشرة الأخبار هو الحدث: كيف وقع وأين ومتى وما المحتوى, ليس المطلوب في الحدث تلبية رغبة المتلقي، فنشرة الأخبار ليست ما يطلبه المشاهدون!
alhebib@yahoo.com