لكم أن تتخيلوا حالة شاب في السادسة والعشرين من عمره مع رجل يتجاوز المائة بسنوات، كيف سيكون الحوار والأسلوب؟ وكيف ستكون نتيجة المناقشة؟
قلت للشيخ أحمد الحضراني - رحمه الله - كيف يا شيخ ترى هذا الرأي في انعزال العالِم أو المفكِّر حتى يصبح من (أحلاس البيوت) بحجة فساد أوضاع الناس وكثرة الباطل وقوة دعاته بوسائلهم وأساليبهم، وأنت ممن خاض الحياة في اليمن طولاً وعرضاً، وخالطت الناس وعاركتهم حتى تكوَّنت لديك هذه الثروة الكبيرة من التجارب والعلوم والمعارف؟؟
ضحك ضحكة محمَّلة بثقل سنوات العمر الطويلة، وقال: اتركنا من هذا الباب، وهات ما لديك من الشعر؛ فقد سمعت لك من خلال المذياع قصيدة ألقيتها في حفل منى السنوي في هذا العام - بقصد عام (1398هـ) - فنالت إعجابي، وأشعرتني بمذاق الشعر العربي الذي أجد لذته في نفسي، ماذا قلتَ فيها؟
ألقيتُ عليه مقاطع من القصيدة تفاعل معها وهو في ذلك السن المتقدم من العمر حتى شعرتُ أنني أمام شاب في مقتبل عمره حيوية ونشاطاً.
ثم حدث ما كنت أتوق إليه؛ حيث انشرح صدر الشاعر الأديب الأريب، واستيقظت شجون الشعر، فقال بصوت صحل جزل يدل على شخصية قوية: اسمع يا عبد الرحمن. وأخذ ينهمر شعراً، ويتدفق إبداعاً، ويكاد يقفز من مكانه انفعالاً، قصائد وقصائد، لها قصص ومواقف، وأراجيز طويلة يتجاوز بعضها المئتي بيت، من تلك القصائد ما هي له، ومنها ما يرويها عن غيره، وتكاد قصائده كلها تكون تاريخاً يتدفق على لسانه شعراً، خاصة ما يتعلق بتاريخ اليمن. وما إن انتهى من الشعر حتى انتقل إلى أخبار عن حقبة زمنية محددة من تاريخ اليمن، أيام حُكْم الإمام أحمد، وقد عاصر أحداثاً كباراً في تلك المرحلة، يكاد يكون هو الراوي الوحيد لكثير منها. وبعد صلاة المغرب واصلنا الحديث في أمور شتى، وعاد إلى الحديث عن العزلة قائلاً: إنما قلت ما قلت سابقاً عن رغبتي في العزلة وأمنيتي أن أكون حلساً من أحلاس بيتي في مرحلة مضت من حياتي لما عانيته من صعوبات الحياة وتقلبات طبائع الناس، وتبدل أحوالهم، وإلا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى بمخالطة الناس والصبر على أذاهم، يقصد بذلك الإشارة إلى الحديث المروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام: «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».
تذكرت هذا كله بعد أن دار الحديث في مجلس قبل أيام بين عدد من المثقفين عن العزلة عن الناس في هذه المرحلة، وهل هذا الوقت هو وقت الانعزال عن هذه الفتن الهوجاء التي تجري في عالمنا العربي، وهذا القتل الذريع الذي يحدث صباح مساء، وهذه الانهيارات الاقتصادية العالمية التي أخرجت مئات الآلاف من المتظاهرين في أوروبا وأمريكا؟.. وكان في الحاضرين من يرى أن العزلة للعالِم وطالب العلم أولى؛ لأن الجدل العقيم قد انتشر، والكلام المتفلِّت قد سرى بين الناس في أمور الدين والدنيا، وأصبح من لا يملك علماً يؤهله للفتوى يفتي، ومن لا يملك صدقاً يؤهله لنقل الأخبار ينقلها، ومن لا يملك أمانة يدير بها ما يناط به من مسؤوليات يأمر وينهى، ويقدِّم ويؤخِّر، وغير ذلك من مظاهر (العصيان العام) الذي يشبع بين الناس في عصر العولمة اجتماعياً وخلقياً وثقافياً، وقبل ذلك كله دينياً.
لكن الرأي الذي رُجِّحتْ به كفة الميزان في ذلك المجلس هو أهمية مخالطة الناس من قِبل العلماء والدعاة والمصلحين بهدف إرشادهم إلى الخير، وإزالة الغشاوة عن بصائر الغافلين منهم، وبيان الحق في كثير من القضايا التي تُطرح، وحجة أصحاب هذا الرأي أن الخير موجود في الناس، وأن الفطرة إذا أُزيل عنها الغبار تظهر براقة صافية، وأن من حق عامة الناس على علمائهم ودعاتهم أن يقفوا بجانبهم في هذه الأزمات التي تسبِّب الحيرة والقلق، وتثير الاضطراب والبلبلة.
بقي أن أقول: إن الشيخ الأديب الشاعر اليمني أحمد الحضراني - رحمه الله - قد فتح معي باب التواصل على مصراعيه في ذلك الصيف فزارني في ليلة رمضانية عشنا معه فيها أنا وشقيقي وبعض الأصدقاء ليلة حضرانية عجيبة مليئة بالحديث عن القرآن والسُّنة والأدب والشعر، كان فيها أنشط الحاضرين، وأكثرهم حديثاً، وأغزرهم رواية بلا منازع.
إشارة:
تنثني هامة الليالي أمامي
كلما لاح لي خيال جديد