القوة ضدها الضعف، والضعف منكور ممتهن، فالضعيف ذليل محتقر، حقه مسلوب وكرامته مهانة وشرفه مبذول، لا تسمع له كلمة ولا تصان له كرامة، تجده دائماً حسيراً، كسيراً كاسف البال.
و(القوي) من أسماء الله الحسنى بها أثنى على نفسه في كتابه العزيز فقال {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} الذاريات 58، وقال {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} البقرة 165، وأثنى الله بالقوة على أحد ملائكته وهو جبريل، حيث قال في كتابه العزيز {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} النجم 6، ودعا القرآن المسلمين إلى امتلاك القوة فقال {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الأنفال 60.
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف فقال (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) فالقوة ليست ترفاً، بل هي حاجة حقيقية للفرد والمجتمع والدول.
ومن طبيعة الإنسان وجبلته رغبته في أن يكون قويا، فلا أحد يرضى الضعف، لذلك حاول الإنسان دائما وما زال يحاول امتلاك كل مايقدر عليه من وسائل القوة وأسبابها، وهذا لا ينافي رغبته في إقامة السلام والعدل ذلك ان حبه لامتلاك القوة كثيراً ما يكون نابعاً من كراهيته للظلم ورغبته في الأمان.. وكما يقول جان جاك روسو: (قوة كل إنسان وحريته أبرز وسيلتين للحفاظ على سلامته).
والقوة تكمن في أعماق الإنسان وترتبط ارتباطاً وثيقا بغريزة حب البقاء، وهي رغم ارتباطها بالبطش والظلم والقهر ستبقى خيارا رئيسا في تحقيق السلام ووجود الإنسان مثلما هي عنصر أساس في كل صراع!!
ومن مسلمات الفكر السياسي ان الدول والشعوب لن تستمر في مسيرتها إلابامتلاك القوة كأسلوب حياة لشق طريقها بهدف تحديد دورها وحركتها وعلاقاتها في المجتمع الدولي وأخذ المكانة التي تسمو إليها.
هذا لأن (القوة) تدخل في جميع مكونات العلاقات الدولية من حروب ونزاعات وصراعات بمعناها العسكري - الإستراتيجي، فالقوة في أحيان كثير تبرز للتهديد لقمع طموحات أحد الأطراف، كما أنها تصبح أوضح في السياسة الدولية إذ يطلق عليها سياسة القوة، خاصة في عالم اليوم الذي يبرز فيه المشهد الدولي يتأجج بصراعات وحروب ونزاعات ستترك آثارها السلبية خاصة على دولنا العربية على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وقبل أكثر من مئة وعشرين عاما قال هنري آدمز (ان الإنسان يمتطي العلم ويسرع به الخطى وسيأتي يوم يعجز فيه عن السيطرة على ما يخترعه من آلات وحينئذ سوف تكون حياته تحت رحمتها) هذه المقولة تصدق على السلاح النووي الذي تعود إرهاصات اكتشافه الحقيقي إلى نظرية العالم الألماني اينشتاين (Einstein) في عام 1905 التي قادت إلى اختراع القنبلة الذرية، حيث أكدت نظريته ان (المادة يمكن تحويلها إلى طاقة كما ان الطاقة يمكن تحويلها إلى مادة).
وبينما أنهكت الحرب الدول الأوروبية المتحاربة واستنزفت طاقاتها ظلت الولايات المتحدة التي دخلت الحرب متأخرة بكامل عافيتها ولذلك استطاعت في تلك الفترة من التاريخ تدشين برنامج مانهاتن الشهير (Manhattan) بإشراف العالمان (انريكو واوبنهايمر) ومع حلول عام 1945 وتحديدا في فجر يوم السادس عشر من يوليو من ذلك العام قامت أمريكا بتفجير تجريبي لقنبلة (الموت) القنبلة الذرية في صحراء الماجوردو بولاية مكسيكو الأمريكية!!
أمريكا بلاد الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وحماية روحه وكرامته وانسانيته كما تدعي ما ان نجحت في صنع سلاح الموت بقوته التدميرية الرهيبة غير المسبوقة في التاريخ حتى استغلت ذريعة معركة (بيرل هاربر) لتلقي أول قنبلة ذرية في التاريخ الإنساني على مدينة هيروشيما اليابانية في اليوم السادس من أغسطس 1945 ثم أعقبتها بثانية على مدينة نجازاكي في اليوم التاسع من الشهر نفسه لتحول المدينتين إلى ركام وتقتل مئات الآلاف من اليابانيين بجانب أعداد كبيرة من الجرحى والمعوقين والمشوهين، ولا زالت آثار تلك الكارثة الرهيبة ماثلة للعيان حتى اليوم وأدى إلقاء القنبلة الفتاكة إلى إعلان امبراطور اليابان استسلام بلاده ونهاية الحرب الكونية الثانية.
وهكذا افتتح الأمريكان النادي النووي عام 1945 ليبدأ السباق المحموم لامتلاك ناصية هذا السلاح المدمر، وشعر الاتحاد السوفييتي بخطورة السلاح الجديد وأنه إذا لم يمتلكه سيصبح تحت قبضة الولايات المتحدة ولذلك سعى جادا لامتلاك هذا السلاح الرهيب فأسند إدارة برنامجه النووي إلى ثلاثة من كبار علمائه هم (نشانوف وارتسيموفيتش وسخاروف) وبالفعل استقبلت صحراء (اوستيورت Ustyurt) في عام 1949 تفجير أول قنبلة ذرية تجريبية، أي أنهم لحقوا بالأمريكان في ميدان القوة النووية خلال أربع سنوات.
ومن استقراء التاريخ وتأمل الواقع يبدو جليا ان امتلاك القوة (Power) هو ابلغ وسيلة للتأثير في سلوك الآخرين وللحد من استخدام القوة المقابلة، وهذا نجد سنده في الممارسات الدولية على مستوى كل الصراعات قديما وحديثا فهي بشكل أو بآخر ضرورة حتمية لا غنى عنها ولا مهرب من التلويح بها أو استعمالها.. تفرضها ظروف المتغيرات الدولية، وبذا نجد ان ما يطلق عليه (تحد القوة بالقوة) متغلغل بالفكر السياسي حتى وإن لم يصرح به علنا على المستوى الدولي.
والقوة شديدة الارتباط بالتقدم العلمي والتطور التكنولوجي، كما ان العلم أصبح في عصرنا هذا من الناحية العسكرية أهم من عدد الجنود وكثرة الآليات والمعدات الحربية، وبالتقدم العلمي تستطيع دولة ان تقهر دولة أخرى أقل تطوراً علمياً وتهزمها دون أن تجيش الجيوش أو تحرك الجنود، فالحرب في عصرنا هذا تعتمد على الإلكترونيات والتكنولوجيا والرياضيات المتطورة والمعقدة التي يمكنها ان تحسم المعارك في ساعات معدودة.
لذا لم تكتف أمريكا والاتحاد السوفيتي (السابق) بهذا الإنجاز النووي ففجرت الولايات المتحدة قنبلتها الهيدروجينية في عام 1952 ولحق بها السوفييت ببلوغ الهدف عام 1953 واستمر الصراع المحموم في مضمار إنتاج أسلحة الفتك المريعة فقامت الدولتان باختراع أسلحة أشد فتكا ودمارا وهي الأسلحة النيترونية التي تعتبر تطورا بالغ التعقيد للسلاح النووي وكان أول من صممه العالم اليهودي كوهين، وهو سلاح لا إنساني، إذ إنه يؤدي إلى فناء الكائنات الحية مبقياً على المباني والمنشآت وقامت الولايات المتحدة بإجراء أول تجربة على هذا السلاح تحت الأرض في عام 1963 في صحراء نيفادا!!
وما أن جاء عام 1954 حتى استضاف النادي النووي العضو الثالث (بريطانيا) التي تمكنت من تفجير قنبلتها النووية في شهر اكتوبر من ذلك العام، وكان عام 1960 على موعد لدخول فرنسا ذلك النادي العظيم وتحديدا في شهر فبراير من العام نفسه وانضمت الصين في شهر اكتوبر من عام 1964 إلى النادي وفي عام 1974 انضمت إليه الهند بعد ان فجرت قنبلتها الذرية، وبهذا أصبح عدد الدول النووية ست دول، ورغم ان إسرائيل لم تعلن تفجيرها لقنبلة ذرية إلا ان الدولة العبرية هي إحدى الدول التي تمكنت من امتلاك السلاح النووي، بل إنها تعد الدولة الخامسة نوويا بامتلاكها أكثر من 200 رأس نووي متقدمة على بريطانيا التي في ترسانتها أكثر من 180 رأس نووي.
وفي عام 1998 وتحديدا في الحادي عشر من شهر مايو من ذلك العام دعمت الهند قوتها النووية بخمسة تفجيرات نووية، ولم تلتقط الهند أنفاسها ولم تنته أفراحها وأهازيجها حتى ردت باكستان بخمس تفجيرات نووية وأكملت عقدها بالتفجير السادس، خمسة تفجيرات هندية قوبلت بستة تفجيرات باكستانية، وبتلك التفجيرات الباكستانية فتح النادي النووي بابه على مصراعيه لتدخله باكستان الدولة المسلمة، وفي عام 2009 دخلته أيضا كوريا الشمالية رغم الفقر المدقع الذي يعيشه سكانها، ورغم الحصار طويل المدى الذي فرض عليها، هذا يؤكد ما ذهب إليه رواد المدرسة الواقعية في كتاباتهم ومنهم توماس هوبز بأن القوة بحد ذاتها قد تمثل قيمة مرغوب فيها، فالدول يجب ان تسعى إلى زيادة قوتها وتدعيم تأثيرها وإلا فإن مركزها سيضعف مع الوقت.
وإذا كانت الحاجة إلى القوة ليست جديدة ولم تطرأ في العصر الحديث، فإنه مما لا شك فيه ان أهميتها زادت في هذا العصر لأن بعض الذين يمتلكون القوة فيه لا أخلاق لهم ولا يردعهم عن استخدام قوتهم ضد الضعفاء دين ولا أخلاق ولا مثل إنسانية.
والقوة إن كانت في يد من لا يحكمه عقل ولا دين أصبحت يد بطش ووسيلة قهر وأداة ظلم، فمالك القوة التي لا يردعها رادع ولا يكبحها وازع تصبح مثل الكلب المصاب بالسعار يعض بلا تمييز كل من يقدر على عضه، ولكن الحمد لله ان نهاية السعار تكون دائما الموت، وكذلك نهاية كل صاحب قوة مغتر فردا كان أم دولة هو الهلاك.
وان أردنا استقراء هذه الحقيقة، فلنرجع إلى التاريخ فإن كثيرا من الدول والامبراطوريات كانت نهايتها حين غرتها قوتها فاستخدمتها في القهر والبطش واستعمار الدول الضعيفة فمثلا قضت الحرب الكونية الثانية التي تعد أبشع واعنف حرب عرفها التاريخ الإنساني، قضت على امبراطوريتين كانتا تعملان على نشر قيمهما خارج حدودهما (المانيا النازية) و(امبراطورية اليابان) وتلاشى دور الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا العظمى) وبرز نجم امبراطوريتين جديدتين ركزتا على نشر فلسفتيهما وقيمهما على العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي (السابق) الذي انهار عام 1991 بعد انهيار جدار برلين 1989، فسجل التاريخ اعلان موت امبراطورية عظمى كانت تغطي سدس اليابسة، لتصبح امبراطورية أمريكا قطب أوحد باعتبارها تملك كل أدوات القوة في كافة النواحي.
والقوة ليست كلها شر، بل إن الخير لا يمكن ان ينمو ويترعرع ويسود إلا إذا كان له من القوة حارس فالعواصف والأعاصير، ما ان تهب عليها الرياح، حتى تتمايل مع الريح ثم لا تلبث ان تنكسر ثم تتهاوى فتسقط وتتحول مع مرور الأيام هباء منثورا.
ولعل الآية التي ذكرناها (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الانفال 60، تدل على عبقرية القرآن في طرح الحقائق فهي تشير بل توضح صراحة ما ذهبنا إليه.
والعرب والمسلمون الذين خاطبهم ربهم بهذه الآيات الكريمة وبين لهم رسولهم صلى الله عليه وسلم أهمية (القوة) عليهم ان يعوا الدروس والعبر ليسعوا جاهدين لامتلاكها، فهي - بعد الله - تحمي الديار، وامتلاكها سبب رئيس للسلام، فالسلام يفرض ولا يستجدى، وهو انما يفرض بامتلاك القوة وبدونها لا سلام ولا نصر ولا عزة.
والمثل الحي ان الدولة العبرية التي سعت لامتلاك القوة وملكتها بالفعل وزادها قوة الدعم الأمريكي الصارخ ترفض السلام والعرب الذين لا يملكون القوة يستجدون السلام ولا ينالونه رغم انهم رضوا بالحد الأدنى منه وقدموا الكثير من التنازلات، فإسرائيل بقوتها ترفض حتى إقامة دولة فلسطينية بجانبها ويؤيدهم في الرفض أوباما الذي أعلن ان بلاده ستستعمل حق (الفيتو) ضد إعلان الدولة الفلسطينية، كما أكد أن أمن إسرائيل غير قابل للمناقشة، جاءت هذه التأكيدات والرئيس الفلسطيني في نيويورك لإلقاء خطابه أمام الأمم المتحدة ليعلن طلب الفلسطينيين اقامة دولتهم مستقلة إلى جانب إسرائيل، وهو الخطاب الذي ألقى شبيها له الخميس الماضي أمام البرلمان الأوروبي.
وهكذا يتأكد لنا ان صوت الحق ضعيف مخنوق في هذا الزمن الظالم ما لم تسنده القوة، وان الدولة العبرية لن تعيد حقنا المسلوب وقدسنا الشريف تفضلا، ولكنها ستهرول إلى ذلك إذا تأكد لها أن أمتنا تملك القوة التي ستجبرها إن هي رفضت!!
والله من وراء القصد
«*» رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com