يتواجد السعوديون بكثافة في برامج الإذاعات والقنوات التلفزيونية العامة والخاصة، وقد أستطيع القول إن المجتمع السعودي تجاوز مراحل، ودخل أخرى، ومنها تجاوزه لبرامج الفتاوى وتفسير الأحلام، والتي انخفضت شعبيتها، بسبب ارتفاع الوعي الجماهيري بأحكام الفقه وقناعتهم بعدم جدوى تفسيرات الأحلام، ويبدو أن ضجيجهم الإعلامي دخل مرحلة مختلفة نوعاً ما، مضمونها التواصل الكثيف مع المنابر الإعلامية لتوصيل آرائهم وشكاويهم إلى المسؤول بأي طريقة، وقد وجد ذلك الهوس الجماهيري استجابة من القنوات الإعلامية المحلية والعربية، بعد أن دخلت شركات الاتصالات في شراكه مع الإعلام الفضائي في شقيه الإذاعي والتلفزيوني، وذلك من أجل هدف مشترك هو بيع أكبر عدد ممكن من الرسائل والمكالمات بقيمة مادية مجزية، ودون إعلام المواطن مسبقاً عن القيمة المادية للمكالمة أو الرسالة.
***
كنت من المتابعين لبرنامج «مع الناس» للمذيع الشهير سليمان العيسى في زمن ما قبل الثورة الإعلامية، والذي كان له السبق في تقديم البرامج التي تبحث عن معالجة مشاكل الناس في الدوائر الحكومية، لكن ذلك كان قبل أكثر من عقدين من الزمان، وفي عصر القناة الحكومية الواحدة، لكن ما حدث على مستوى الإعلام، خلال العقدين الماضيين، لم يكن في الحسبان، فقد تضاعفت القنوات الإعلامية إلى أعداد لا حصر لها، وإذا أدخلنا في التعداد المواقع الإلكترونية والمواقع الاجتماعية، فإن الرقم سيكون مذهلاً، لكن برغم ذلك لم يتغير الحال كثيراً، وأشعر عندما أتابع برنامج الساعة الثانية على قناة (إم بي سي) الإذاعية، الذي يقدمه الإعلامي المعروف داود الشريان أنني لا زلت في عصر «مع الناس»، مع اختلاف المقدم ودخول المستثمر..
***
فالبرنامج يكاد يكون نسخة مطورة من برنامج مع الناس، ولكن الذي يختلف عن السابق أنه يستغل هم المواطن بحسن نية ثم يقدمها في منبر برلماني بلا ضوابط، وكما عبر عنه مقدمه داود الشريان عندما صرّح أن الهم السعودي سر نجاح برنامجه، فالمواطن عليه أن يدفع من أجل إيصال همومه وشكواه إلى مقدم البرنامج، ولا يعني ذلك أن تساؤله سيُطرح على المسؤول، ولا يعني أنه سيسترد ماله إذا لم تُذع شكواه، ولم يقتصر ذلك على القنوات الإعلامية الخاصة فقط، فقد انتقلت العدوى المادية أيضاً إلى القنوات العامة، فالقنوات الحكومية، ومنها إذاعة القرآن الكريم أصبحت بعض برامجها تستقبل اتصالات عبر المكالمات والرسائل المكلفة مادياً.
***
ما أود أن أصل إليه أن استخدام الجماهير للمنابر الإعلامية من أجل نقد أداء الدوائر الحكومية وقصورها دخل منعطفين أحدهما مادي والآخر سياسي، ولم نعِ بعد أن عوالم الإدارة في العالم لها طرقها الحديثة التي تتم من خلالها مناقشة مطالب الجماهير عبر ممثلين لهم، لا أن تتولى قنوات خاصة القيام بالأدوار الغائبة في المجتمع، ثم استغلالها مادياً عبر رسائل الجوال الغالية الثمن، وهل يُعقل أن يمثل الناس مذيع أو قناة أمام أداء الحكومة، وهل يستطيع المسؤول حل مشاكل المواطنين في ساعة وعبر مداخلات متقطعة، تتخلها الدعاية الإعلامية، وعادة ما تنتهي بعبارة الحل الفردي الشهيرة «لو سمحت كلمني بعد البرنامج»..
***
أجد في هذا الاجتهاد الإعلامي تسطيحاً واستخفافاً بهموم الناس، إذ لا يمكن أن يقوم المنبر الإعلامي بدور البرلمان أو المجلس المحلي في المجتمع، والجدير بالذكر أن عدداً من القنوات التي يملكها مستثمرون ومثقفون عرب قد استغلت في كثير من الأحيان ذلك الضجيج الجماهيري بحسن أو سوء نية قد يصل إلى درجة ابتزاز الوطن، ولعل أشهرها قناة المستقلة والقنوات الفضائية اللبنانية، وبرنامج منبر من لا منبر له الشهير على قناة الجزيرة.
***
توصل العالم الأول إلى تطبيق الآليات الحديثة في تقنين التواصل بين المواطن والمسؤول، وذلك من أجل الخروج من الاستغلال غير المشروع لمطالب الناس، أدت في النهاية إلى أن يكون هناك مجلس يمثل الناس أمام الحكومة المحلية، ويكون مسؤولاً عن تمثيل الناس في تقديم المطالب والشكاوى التي يواجهها مواطنو القرية أو المدينة أو المنطقة، ولا شك أن هناك خطوات في هذا الاتجاه، ومنها تأسيس المجالس البلدية، والتي ستنجح -إن تم تفعيلها- في تقليل ضجيج الهم السعودي عبر الأثير، لكن الأمر يحتاج أيضاً إلى ممثلين على مستوى المنطقة من أجل تحويل المجتمع من ظاهرة صوتية وإعلامية، إلى مجتمع هادئ ومنظم وله قنوات إدارية مقننة تضمن وصول همومه ومطالبه للمسؤول، بدلاً من أن يتحول الهم السعودي إلى مادة دسمة للنجاح الإعلامي والكسب المادي، وأيضاً لأجندة هواة السياسة وفرسانها الجدد خارج الوطن.