أصبحت قضية الطيران الداخلي الشغل الشاغل للكثير من الكتّاب ووسائل الإعلام بسبب شكاوى المواطنين والمقيمين المتكررة، الذين يعانون ويتجرعون الألم والأسى من سوء الخدمات المزرية، وعدم وجود البدائل والخيارات المرضية، وعلى قول المثل الشعبي «قالوا صفوا صفين قالوا نحن اثنين!!»، يعني ليس أمامكم سوى خيارين، الخطوط السعودية، والخيار الآخر أيضاً الخطوط السعودية، والمثير للدهشة حقاً هي تلك الاسطوانة المشروخة التي لا تزال تتكرر على مسامعنا رسالة «نشكركم لاختياركم «السعودية»!! نسوا أو تناسوا بأن المسافر مسير (بغصب واحد) وليس مخيراً!!
من هنا فقد استبشر المسافرون خيراً مطلع عام 2007م بنبأ الإعلان عن أول شركتي طيران اقتصادي (سما وناس) وكانت حينها المؤشرات ترجح نجاحاتهما بنسبة عالية، بحكم أن النقل الجوي السعودي يُعد من أكبر القطاعات الاقتصادية في المنطقة، ويحظى بمقومات استثمارية يندر وجودها في أي دولة أخرى، بدءاً من حجم تعداد السكان، ومروراً بالنسب المتزايدة سنوياً للمعتمرين والحجاج، إضافة إلى قوة نشاط حركة السياح السعوديين الداخلية والخارجية، وانتهاءً بمحدودية وسائل النقل العام وانعدام المنافسة التجارية.
ولكن مع شديد الأسف، أحبطت كل الآمال والتطلعات تلك الشركتين وخذلتا المسافرين الذين صعقوا بخبر سقوط «سما» وتعليقها جميع رحلاتها وتوقف عملياتها التشغيلية بشكل عام في شهر أغسطس 2010م إلى جانب شركة «ناس» التي هي الأخرى لا تزال تترنح من ثقل الخسائر المالية، وتعيش حالياً أزمة مرضية قاسية دخلت على إثرها العناية المركزة وحالتها الصحية غير مطمئنة، بمعنى أنها مهددة بالتوقف والإفلاس.
وهذا الأمر يثير استفسار هام وهو أين يكمن خلل الطيران الاقتصادي، هل من أنظمة الطيران المدني، أم فشل في إدارة تلك الشركات؟! مع العلم بأنه لا يخفى على الجميع بأن شركتي «سما وناس» حظيتا منذ البدايات والانطلاقة بتسهيلات ومساندات عدة، تمثلت في تساهل الطيران المدني معهما، وغض الطرف عنهما في الكثير من الأخطاء والتجاوزات، ومنها تخلي الطيران الاقتصادي عن دوره الأساسي وتجاهله شروط ترخيص التشغيل المنصوص عليها، وتحديداً ما كان يسمى الرحلات الداخلية الإلزامية التي تم إلغاؤها ولم يبقَ إلا القليل منها فتحول النشاط إلى رحلات دولية، على رغم أن الترخيص ينص أيضاً على أن تكون الرحلات الدولية بنظام «تشارترز»، بمعنى أنها غير مجدولة ولا يتم الإعلان عنها.
واستمر الجدل والامتعاض حول تلك التجاوزات من دون تدخل من الطيران المدني، فانحرفت تلك الأهداف إلى اتجاهات أخرى، وأقصد بذلك الاهتمام بالرحلات الدولية وتجاهل الرحلات الداخلية، فكان كبش الفداء هو المواطن الذي واجه (الشحططة والمرمطة) وتحمل المتاعب والأضرار الجسيمة والمعاناة النفسية الأليمة نتيجة التخبط وتعدد القرارات الارتجالية التي وضعت المسافرين أمام معضلة حقيقية عاشوا من خلالها ظروفاً عصيبة، خصوصاً المرتبطين بمواعيد طبية أو طارئة!!
لذا فالطيران الاقتصادي لم يكن على الإطلاق منافساً ولا حتى العوض، كما كان متوقعاً، بل القطيعة التامة والفوضى العارمة!! ذلك بسبب ضعف الرقيب وهشاشة النظام، ما شجع الطيران الاقتصادي للتنصل عن أدنى حقوق المسافرين.
أما حقوقهم فهي بكل تأكيد في الحفظ والصون بحكم نظام تذاكر السفر مسبقة الدفع وغير القابلة للاسترجاع، فمن هنا ليس مستغرباً أن تبدأ الرحلة بخبر تأجيل أو إلغاء، بل أصبح من المعتاد أن تجد راكباً أو أكثر، أو عائلة أو أكثر، تقضي الساعات بين ردهات هذا المطار أو ذاك ويعيشون مسلسلاً من المتاهات ليس له نهاية.
والقشة التي قصمت ظهر البعير هو تصريح الأستاذ سليمان الحمدان الرئيس التنفيذي لطيران «ناس» القابضة لوسائل الإعلام المحلية، إذ كشف من خلاله أن صناعة الطيران في المملكة مهددة بالإفلاس، وأن شركة ناس تكبدت خسائر فادحة تجاوزت حتى الآن 800 مليون ريال، وأن هذه الأزمة دفعت «ناس» إلى خفض التكاليف بشكل كبير، حتى وصلت إلى مرحلة قصوى لا يمكن بعد ذلك تخفيضها لأنها الحد الأدنى للسلامة والجودة للمسافرين.. هذا نص ما ذكره سليمان الحمدان في تصريحه بصحيفة «المدينة»، بتاريخ 28-5-2011م، وقد توسعت تصريحاته المرعبة لوسائل إعلام أخرى ومنها جريدة الرياض وإذاعة إم بي سي وجميعها انعكست بنتائج سلبية وأساءت إلى سمعة ناس وجاء في وقت غير مناسب للشركة أو للمسافرين الذين كانوا على أهبة الاستعداد لموسم إجازة الصيف الماضي، وهناك الكثير منهم قام حينها بإجراء الحجوزات ودفع قيمة التذاكر والفنادق، وكان من باب أولى تعزيز ثقتهم وطمأنتهم وليس نشر غسيل الشركة ومشاكلها عبر وسائل الإعلام!! ألم يدرك بأن المسافرين ليس لهم أي علاقة أو صلة حول ما ذكر، سواء أنه خلق في نفوسهم القلق والتوتر والمخاوف من أوضاع الشركة المتردية!! بل إن الأمر وصل إلى تفسير البعض لحديثه على أنه تمهيد لتوقف «ناس» وإشهار إفلاسها!! وهذا ما يضاعف مخاوف العاملين وكذلك العملاء من ضياع حقوقهم، لأنه في حال الإفلاس لا قدر الله ليس هنالك ضمانات تحمي حقوقهم المالية وتنصف قيمته الإنسانية .. وياغافل لك الله!!
لقد بات من الضروري فتح المجال أمام شركات الطيران العريقة وخلق روح المنافسة الشريفة مع التركيز على أهمية وجود حوافز للرحلات الداخلية، ومنها خفض أسعار الوقود المرتفعة إلى جانب تأجيل فتح سقف أسعار التذاكر الداخلية حتى تتحقق فعلياً المنافسة الحقيقية في الرحلات الداخلية المرتبطة بسياسة الاقتصاد الحر المعتمد على آلية العرض والطلب.
نحن مدركون بأن قطاع المال والأعمال يواجه الكثير من التحديات والمتغيرات والأزمات المالية والاقتصادية، وليس هنالك قطاع لا يعاني من تقلبات الأسعار وارتفاعها ومواجهتها في الغالب تعتمد على الدراسات الدقيقة عند التأسيس والاستراتيجيات العملية التي تضمن الوصول إلى المكانة العالية والسمعة الجيدة وتعكس الفكر والتميز بفن الإدارة وليس الاكتفاء باستخدام المتغيرات كشماعة لتعليق الأخطاء عليها وتبرير الإخفاقات ومن ثم الاستجداء والبحث عن دعم الدولة أو التهديد بالتوقف والإفلاس أو زيادة الأسعار على ظهور الناس.
لأن عصر التخصص لا مجال فيه للباحثين عن الصفقات السريعة، أو الراغبين في التقليد، أو التجريب في صناعة السفر على وجه التحديد، وتتجسد تلك الحقيقة بشكل متكرر وسرعان ما يخرج من السباق تجار الفرصة وقلة الخبرة ليبقى في النشاط أصحاب السمعة والمكانة والمصداقية والقدرات والخبرة والإمكانات الباحثين عن ترسيخ قواعد علمية ومهنية تضمن لصناعة الطيران الاستمرار والنمو والازدهار وتتيح لها فرصة المنافسة، على رغم ما يواجهها من تحديات.
نقول ذلك بسب ما نراه من ممارسة أساليب المساومات برفع الأسعار، أو التهديد بالتوقف التي أصبحت أخيراً ظاهرة سلبية تستخدمها بعض الشركات وفي مختلف المجالات، والدافع هو الجشع والطمع والاستغلال حتى اتسعت رقعة هذه المشكلة واستفحلت ضراوة وضرراً ولا بد من مواجهتها بكل حزم وقوة وتخليص العملاء من كل الشركات التي توصف بالنطيحة والمتردية!!
وقفة: سألت أحد الخبراء في النقل الجوي عن سر التفوق السريع الذي حققته الخطوط القطرية؟! فكانت الإجابة عن السر في كلمة واحدة فقط هي (الإدارة).
دمتم في رعاية الله... إلى اللقاء.