عندما يرتفع الفقر في سعته وعمقه ولا عدالته تكون الحتمية الاجتماعية تقريباً مطلقة. فالطفل يكون مجبرا على العمل ليساعد الأسرة على العيش، وهذا العمل سيكون حتما مرهونا بتخليه عن المدرسة من مدخل الأولويات. وهنا تظهر عالمية الفقر بمستوى عالمية هذه الظاهرة - عمل الأطفال- التي لا يمكن أن تختلف أسبابها ومظاهرها في كثير من الأقطار، وتظهر بالموازاة مع ذلك ضرورة إيجاد مخارج اقتصادية عملية لظاهرة الفقر، لأن آثارها لا تتوقف عند حدود الجوع والمرض، وإنما تتعدى ذلك إلى جدل فلسفي قائم هو»أكون أو لا أكون»، وهنا تقع فعلا المشكلة في طبيعة هذه الكينونة في ضوء إقصاءات العوز اللامتناهية.
فإن عمل الأطفال هو حاضر بصفة أكثر عند البلدان النامية، وبصفة خاصة عند الطبقات الفقيرة في المجتمع. والأمثلة كثيرة وثرية جداً حول أطفال ذكور دخلوا ميدان العمل، فكم من الأطفال العمال الذين نلقاهم في حياتنا اليومية، أحدهم يسرع بمنديله وقارورة الماء إلى سيارتك، والآخر يتخذ من طاولة «العصائر والغازيات» محلا لتجارته، وفريق آخر يقف على حافة الطرق الرئيسية ليبيعك تارة عطراً وتارة أخرى لعبة صغيرة... بأجساد ضعيفة نحيلة، وهذا ما تراه أعيننا ولعل ما خفي هو أعظم ! فالحديث عن عمل الأطفال أصبح يتجاوز الجدل القائم حول حقوق الإنسان إلى حقائق واقعية تنطق عن ممارسات فعلية لا يمكننا تجاهلها لأنها ستأتينا لنلاحظها حتى وإن لم نقرر نحن أنفسنا ذلك! وتختلف الصور التي يظهر عليها عمل الأطفال، فمنهم من يعمل داخل البيت مع الأسرة، أو في مؤسسات صغيرة عموماً أو أخيراً في الشارع، وتجدر الإشارة هنا إلى أن النتائج الخطيرة حول الصحة ومستقبل الأطفال الفقراء هي مسجلة أكثر عندما يعمل الأطفال في الشارع .
إن الأطفال العاملين هم في كثير من الأحيان قد تخلت عنهم أسرهم كما أن ظروف حياتهم أكثر قساوة وبعيداً عن الدفء الوالدي فإن هؤلاء الأطفال يتعرضون في كثير من الأحيان إلى أحداث تخرب شخصيتهم بسبب تسلط الكبار، ولعل وضعهم يتسجل في إطار العبودية!
إن وضعية عمل الأطفال هي من أعقد مظاهر الفقر جميعها، فالطفل يغادر تماماً المدرسة في سن مبكرة، حيث يجد نفسه يومياً مضطراً لتدبر قوت يومه من أجل العيش، وهو بهذا الوضع سيدخل في حلقة العمل أين تفرض عليه منافسة الكبار بقوة، ليجد نفسه مرة أخرى مضطرا للاندماج في لعبة العمل داخل محيط الشارع مع كل ما تحمله من مخاطر، ومن أجل أن يعيش دائما يجد نفسه يبحث عن إقامة توازنات تسمح له بتخفيف الضغط عليه من خلال اللجوء إلى المخدرات، وإن اقتضى الأمر أيضا الدخول عالم العنف والإجرام!
(*) عضو هيئة التدريس بقسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
wafa-n-alajami@hotmail.com