خلال الأيام الماضية، تحدثت إلى بعض وسائل الإعلام عن فقيد الوطن الراحل الأمير سلطان بن عبدالعزيز يرحمه الله، وشعرت بعد كل ما قلت إنني - أو غيري من الذين تشرفوا بالعمل مع سموه - لن نستطيع الوفاء ولو بجزء يسير من مناقب هذا الرجل الاستثنائي. هل يتحدث الإنسان عن حياته السياسية الحافلة، أو عن دعمه للعلم والعلماء، أو عن مواقفه الإنسانية التي يعجز الإنسان عن حصرها ناهيك عن وصفها، ولذا قد يكون من المناسب الحديث عن بعض مما لا يعرف عن هذا الرمز الوطني الكبير.
يروي المقربون منه - رحمه الله - أنه كان ذات زمن بعيد جدا في ضيافة أحد إخوانه الكبار مدعوا لطعام العشاء، وغادر بعد انتهاء المناسبة في سيارة يقودها بنفسه. كان الوقت متأخرا والمطر يهطل والبرد شديد، وفي الطريق رأى شيخا هرما يؤمي بيده للسيارات المارة. توقف - يرحمه الله -، وسأل الرجل عما يريد، وبعد ما عرف أنه يريد الذهاب إلى منزله، طلب منه الركوب. لم يتعرف الشيخ على هذا الرجل الذي تبرع بإيصاله، ولم يكشف الراحل عن شخصيته للرجل. بعد وقت غير قصير، كان الشيخ عند باب منزله، وقبل أن ينزل من السيارة، طلب منه الأمير سلطان - الشاب اليافع حينها - أن ينتظر. مد الأمير الشاب يده إلى كيس كان في درج السيارة مليء بالجنيهات الذهبية، وناوله الشيخ الفقير دون أن يكشف عن شخصيته. تبين لاحقاً أن هذا الكيس الذي تم إعطاؤه للرجل كان يحوي المصروف الشهري للأمير الشاب كاملاً!. نستخلص من هذا أن « الكرم» الذي ظل ملازماً لهذه الشخصية النادرة كان «طبعاً عفوياً» منذ سني شبابه الباكر، فقد أعطى كل ما يملك لرجل لا يعرفه!.
وذات يوم كنت أهم بالدخول عند البوابات الخارجية لمكتب الراحل في وزارة الدفاع، وإذا بشيخ كبير في سيارة «وانيت» قديمة يبدو عليه السهر والإرهاق والحزن. سألته ماذا يريد، فقال إنه يريد الدخول لمقابلة الأمير سلطان، وأن الحرس لم يسمحوا له. دلفت إلى داخل المكتب، وحدثت مسؤولي المراسم عن أمر هذا الرجل، فهبوا هبة رجل واحد، وما هي إلا دقائق حتى كان الرجل داخل المبنى ينتظر مع بقية المواطنين. أخبرني مسؤولو المراسم أن الراحل كان يحرصهم دوماً على إعطاء الأولوية لمثل هذا الرجل، ويغضب عندما يمنع من هو مثله. كان هذا الرجل قد كتب خطابا من سطرين بخط اليد على ورقة قديمة، وقد قابل الأمير - يرحمه الله -، وأمر بقضاء كل حوائجه وأعطاه مبلغاً مالياً مجزياً.
ومما يجدر ذكره هو حرصه على خدمة كل ما له علاقة بالإسلام، فذات مرة زاره « الخطاط» الذي يكتب القرآن، ولا زلت أذكر الاحتفاء الاستثنائي الذي قابل به سموه - يرحمه الله - ذلك الشيخ، والعاطفة الجياشة التي شعر بها وهو يتحدث عن مدى أهمية العمل الذي يقوم به ذلك الرجل. أيضا كان يولي أهمية قصوى للمبدعين الشباب، ويدعمهم معنوياً ويتابع مسيرتهم، ويتكفل بكل ما من شأنه مساعدتهم على مواصلة التميز، كشراء التجهيزات والتكفل بالسفر متى ما استلزم الأمر ذلك.
وختاماً، أؤكد أن ما كنت شاهداً عليه لا يساوي نقطة في محيط مما لم أطلع عليه من مكارم هذا الرمز الكبير - يرحمه الله -، والذي نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، فقد أسعد كثيرين في كل جهات الدنيا الأربع.
amfarraj@hotmail.comتويتر alfarraj2@