مضى سلطان الخير إلى رحاب ربه وترك في النفوس حسرة حارقة ولوعة لا تنتهي، ولكنه مضى بجسده وترك في القلوب محبة ما بعدها محبة، وفي النفوس ذكرى طيبة لا تمحوها الأيام.
إن سلطان لو غاب بجسده فإنه موجود بيننا بما خلف من مآثر لا تحصى وأيد بيضاء لا تخفى.
إن بصمات سلطان وآثار خيراته موجودة في كل مكان في بلاده في مزارعها وفي جامعاتها وفي معاهدها وفي أسواقها فهو واحد من الذين بنوا هذه المملكة وشيدوها لبنة لبنة حتى أضحت بلداً شامخاً عزيزاً يتفيأ أبناؤه وافر خيره، ويتسربلون بأمنه ويفتخرون به بين الأمم.
لقد حاز سلطان الخير مجداً لا يحوزه إلا القليل من الرجال، فالمجد لا يناله إلا أصحاب القدرات العالية من الرجال، ولا يحوزه إلا من ملك نفسا كبيرة لا ترضى إلا بأعالي الأشياء وشوامخ القمم، فأهل المجد دائماً أهدافهم سامية ونفوسهم غاياتها عالية.
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجساد
وأي نفس أكبر من نفس سلطان، وأي جسد أتعبه صاحبه كما أتعب سلطان جسده.
فليس فلتة أو صدفة أن يصبح أحد ما من عظماء الساسة أو كبار القادة أو أهل الفكر الذين يشار إليهم بالبنان، ولكن أحد هؤلاء إنما تبوأ تلك المكانة وارتقى تلك الدرجة لأنه يملك مواهب وقدرات تجعله يسبق الآخرين ويتفوق عليهم، هذا بجانب العزيمة والإصرار وتحديد الهدف بدقة إذ إن المواهب والقدرات تموت وتنزوي إذا لم تحركها الإرادة، ويدفعها الإصرار ويحدد صاحبها هدفه، ولذلك فإننا ما أن نحلل شخصية أحد عظماء التاريخ إلا ونجده يملك قدرات راقية ومواهب عالية وأهداف سامية.
والأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله من هذا النوع من العظماء، فقد أعطى ما يحتاج من الزمن إلى عقود كثيرة في سنوات قليلة، ونشر ظل خيره وعطائه على مساحة الوطن كله وتعداه إلى الأوطان العربية والإسلامية ودول أخرى في العالم فما من مواطن إلا ووجد فيء ذلك الظل، وما من منطقة أو مدينة أو هجر إلا وجد طيب برده.
إن ما أعطاه الأمير سلطان لوطنه ولأمتيه الإسلامية والعربية أكبر من أن تستوعبه كتب وأسفار، فهو يعمل بلا كلل ولا ملل ليل نهار وكأنه في سباق مع الزمن، وكثير من الناس يعملون عملا كثيرا ولكنهم حطاب ليل يجمعون الغث مع السمين، ولكن الأمير سلطان لا يعمل إلا المحكم من الأعمال، ولا يفعل إلا المتقن من الأفعال، ولهذا كان يكلف دائماً بالأعمال والمناصب التي تحتاج إلى جهد خارق وإخلاص نادر، وصبر شديد، وفكر ثاقب، وقدرة يلين معها الحديد.
وهو إذا كان يعطي عطاء خالصاً منزهاً من الرياء مطهراً من الغرض مبرأ من الأذى وهو بعد ذلك في صدق المجاهدين لا ينتظر جزاء ولا شكوراً إلا ما أوفره الله لأمثاله من أصحاب القلوب الكبيرة والأيادي البيضاء، إن سلطان الخير رحمه الله بجانب القدرات والمواهب كان يملك قلبا كبيرا وإنسانية فياضة ورغبة في الخير لا تحد فالقدرات وحدها لا تصنع المجد، والعبقرية متفردة لا تبلغ بالرجال.
ما بلغ سلطان، فإن كثيرا من الشخصيات العبقرية لا يعرف لها أثر ولا بقي لها ذكر يذكر وظلت منجما مغلقا لم يستفد أحد من كنوزه، بل إن العبقرية التي يفتقد صاحبها الدوافع الإنسانية، والرغبة في الخير قد تعود على الناس وبالا ونكالا، ولكن سلطان الخير بجانب قدراته الفائقة وعبقريته الوافرة ومواهبه الفريدة، كان يمتلك إنسانية نادرة وقلباً محباً للخير فريداً سخر مواهبه لمنفعة الناس واعمل عبقريته لإسعادهم، فكان خيراً على شعبه وبلده وأمته الإسلامية والمجتمع الدولي، وكان بهذا التزاوج الموفق بين العبقرية بل والإنسانية جمعاء نسيج وحده في عبقريته وعطائه، كما هو نسيج وحده في إنسانيته وعاطفته النبيلة.
إن الأهداف النبيلة لتربك أحيانا عمل الخير فيأتي فجاً غير محكم فلا تغني الكثرة شيئا، وإن وسوسة الأحكام والتثبت لتحجم عند كثير من الخيرين عمل الخير فلا يجد منهم الناس كثير خير رغم نياتهم الصادقة، والمواءمة بين كثرة العمل الخير والإحكام تحتاج إلى بصيرة نافذة، وصبر شديد، وموهبة وصدق نية، فما كان يقوم به سلطان الخير من عمل لا يضر به الإسراع ولا يقعد به التثبت والتريث، وسلطان الخير يملك ذلك كله، لذلك رغم أن الأمير سلطان يحقق أهدافه وينجز ما أنيط به في سرعة تلهث معها أنفاس العتاة من الرجال، إلا أن ذلك لم يمنعه في يوم من الأيام من التخطيط المحكم، واتخاذ القرار الصائب، وهي واحدة من مواهبه الكثيرة الفذة، فلا السرعة تؤدي به إلى التخبط وعدم تبين مواقع قدمه، ولا التخطيط والدراسة العميقة تبطئ بخطواته وتثقل تقدمه.
هناك رجال يعشقون النجاح والأمير سلطان منهم بل هو أميرهم في ذلك، ولذلك فإنه لا يقوم بعمل ما إلا ويبلغ به غاية النجاح، باذلاً في ذلك جهده ووقته وماله بل وصحته، ولذلك فإننا لا نجده انبرى لعمل ما أو تقلد وزارة ما، أو تبوأ منصباً، إلا وبلغ بذلك العمل ذروة النجاح، وتقدم بتلك الوزارة خطوات واسعة في طريق التقدم، وارتقى بها درجات عالية في مراقي التجويد والتطوير، ولا تبوأ منصباً إلا تشرف به ذلك المنصب، واتعب من جاء بعده إليه.
إن النجاح عند الأمير سلطان يعني أن يتسلح لذلك دائما في كل عمل يقوم به بفكر ثاقب وعقل راجح وبصيرة نافذة وإخلاص فريد ونفس سخية وحب للخير، ثم صبر لا يتحمله إلا أصحاب العزائم القوية والقامات الصلبة ثم قبل ذلك وبعده توكل على الله الذي لا يضيع من توكل عليه ولا يخذله ولا يسلمه.
والأمير سلطان رحمه الله كان شخصية شديدة التميز عالية التفرد، فعنده قدرة عجيبة على أسر القلوب، والدخول إلى النفوس، وهو في الوقت نفسه يثير إعجاب العقول وعجبها، فسلطان لم يكن عالي القدرات رفيع المواهب في ناحية من مناحي الحياة أو اثنتين - وهذا شأن أصحاب المواهب -ولكنه كان ذا قدرات فائقة ومواهب فريدة في عدد لا يحصى من مناحي الحياة وشؤونها، وفي كل واحدة منها له فيها القدح المعلى والمكانة السابقة الأولى.
إن سلطان الخير بمواهبه الفريدة وقدراته الفائقة وعطائه غير المحدود لا يستطيع رجل واحد أن يعطيه ولا عمر رجل واحد أن يكفيه، ولكن الأمير الفارس أعطى والعمر كفى.
لو سألت أحداً كم كان عمر سلطان عندما توفي؟ لأجابك - والناس يعرفون تاريخه كما يعرفون فضائله: ثمانين ونيفا.
ولكن الحقيقة أن سلطان الخير عاش بأعماله أضعاف أضعاف ذلك العمر، فما فعله لأهله وبلده وأمته يحتاج إلى قرون لا إلى سنوات وإذا كان سلطان عاش بأعماله أضعاف أضعاف عمره فإنه سيعيش في القلوب أضعاف ذلك وأكثر.
وللحديث بقية..
*رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com