لكل اجتماع من خليلين فرقة
ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب
أي والله فرقتنا الليالي بعد طول عشرة وعمر مديد بصحبتها متحابين ومتآلفين، وقد من الله علينا في هاتيك العقود الماضيات بذرية صالحة بنين وبنات أضفى وجودهما قرة أعين وابتهاجا في نفوسنا، لكن استمرار سرور الدنيا لا يدوم أبدا، ففجائع الأيام تكدر ذلك الصفوكله، وتدك هضاب القلوب دكا، وتورث حزنا يدوم مكثه بين الجوانح والقلب، ولاسيما إذا كان الفقيد عزيزا ولصيقاً بالنفس وجزءاً من حياة الإنسان كالوالدين والأخوة ذكورا وإناثا، بل وبرفيقات الدرب شريكات حياة المرء، فإن رحيلهم أو رحيلهن محزن ومؤلم جدا.. فبينما كنت متأهبا لأداء صلاة فجر يوم السبت 17-11-1432هـ إذ برنين هاتف ابني الأكبر محمد يحمل نبأ وفاة والدته شريكة حياتي من مستشفى دلة بالرياض نورة بنت عبدالرحمن بن عبدالعزيز المشعل وهو يُحاول دفع عبراته مكفكفاً دموعه - تغمدها الله بواسع رحمته - وجزاها الله عني خير الجزاء، ولقد نزل ذاك الخبر والنبأ المحزن جدا على قلبي فصدعه وهدّ كياني، فشعرت أن الأرض استدارت بي ومن حولي لشدة هول مصيبتي في أم أولادي ورفيقة دربي الذي نيّف على خمسين عامة
خمسون عاما قد تولت
كأنها حلوم أو بروق خواطف
ولقد طوح بي الخيال فجأة إلى تحريك شريط ذكرياتي الحبيبة معها، منذ اقتراني بها في ليلة الاثنين 19-5-1375هـ وأنا في السنة الأولى بكلية اللغة العربية بالرياض، فلم أملك انهمال دموع العين تحسرا على رحيلها عني وبقائي وحيدا بعدها - كان الله في عوني وعون أبنائها وبناتها، وشقيقيها الشيخين: مشعل وعلي أبناء الخال عبدالرحمن المشعل - فهي من فضليات النساء عقلا ومروءة، محبوبة لدى أسرتها وجيرانها وعارفيها، عطوفة على المساكين وصديقة للأطفال تُفرحهم بابتساماتها التي لا تغيب عن شفتيها ومحياها الوضاح، وبما تمنحهم به من هدايا ولعب، فقد طبعت منذ فجر حياتها على السماحة مع الصغير والكبير:
ولقد أراكِ كسيتِ أجمل منظرٍ
ومع الجمال سكينةٌ ووقارُ
ولقد ضاعف من حزني وبكائي وقوف بعض الأطفال أمام باب غرفتها في اليوم الأول وهم يتساءلون أين ماما نورة، أين ماما نورة !! فأبكوني وأبكوا من حولهم حيث بدت عليهم آثار الحزن ولوعات الفراق رغم صغرهم، فهي - يرحمها الله - تحب البذل في أوجه البر والإحسان، وتوصي أبناءها بتأمين مقاعد للمصلين، وخاصة مصليات النساء في عدد من المساجد، كما توصينا بالمساهمة في تعبئة برادات المساجد بالماء العذب، وغير ذلك من أعمال الخير.
وكانت أم محمد - يرحمها الله - خير معين لي أثناء دراستي تحاول جاهدة تهيئة الجو المريح للدراسة والمذاكرة، كل ذلك حرصا منها على أن أكون في طليعة الزملاء الناجحين، مع رفقها بي ماديا طيلة المرحلة الدراسية لعلمها أن المكافأة محدودة، فجزاها الله عني خيرا، ومع ذلك كله اعتادت عند إعداد طعام الغداء أن تزيد فيه لكرمها وطيب معدنها، احتياطا وتوقعا لمن يقصدنا من معارف طيلة حياتها الحافلة بالذكر الحسن، واستمرت على الجزالة في إعداد الطعام اللذيذ حتى قُبيل وفاتها بأيام قلائل - تغمدها الله بواسع رحمته -:
ولا ذكرت جميلاً من صنائعها
إلا بكيتُ ولا ودٌّ بلا سببِ
وكانت طيبة المعشر كريمة الخلق مع جيرانها وأسرتها تفرح بضيوفنا مُعجّلةً بتقديم القهوة وإعداد القرى في لحظات قياسية في أي وقت ليلا أو نهارا، كما أنها - يرحمها الله - منذ نوّرت منزلنا بارَّة بوالديَ وتقوم بخدمتهما وخاصة والدتي التي بقيت بعد وفاة والدي مايقارب خمسة وثلاثين عاماً عاشت معها في جو يسوده الود والاحترام بعيداً عن تكدير الخواطر بل إنها حزنت على وفاتها حزناً عظيماً، وتوصينا ببذل الصدقات عنها والترحم عليها دْوماً وإكرام صديقاتها، كما أنها على صلة بالأقارب والجيران تُبارك لهم في أفراحهم، وتزور مرضاهم، وخاصة ابنة الأخ (محمد) هيا والدة أبناء إبرهيم بن علي العجاجي التي مازالت ملازمة منزلها منذ سنين، فهي تزورها باستمرار رغم ماتعانيه هي من آلام مقيمة بجسدها وفاء واحتساباً للأجر في التواصل والترويح عنها ليخفَ ماتكابده من أمراض وإعاقة، كما أنها لاتنسى مثيلاتها هيا بنت خالها عبد الله بن موسى بن ظفر والدة معالي الأستاذ عبد الرحمن بن محمد الدهمش، وغيرها من الأقارب.
ولقد اكتظ جامع الحي الجديد بحريملاء بجموع غفيرة من المصلين عليها بعد صلاة عصر يوم السبت 17-11-1432هـ رجالاً ونساءً من محافظة حريملاء والمحافظات القريبة منها، بل ومن مدينة الرياض ثم تبعوا نعشها حتى وارتها الترب بمساكن الراحلين بمقبرة (صفيه) داعين لها بالمغفرة وطيب الإقامة بمرقدها إلى أن يأذن الله بخروج الخلائق من أجداثهم:
هنيئا لقبرٍ ضم جِسْمَكِ إنه
مَقَرُ الحيا أو هالةُ القمرِ البدر
وقد عانت من الأمراض في آخر أيام حياتها ما الله عالم به، فأخذ أبناؤها البررة بنقلها من مستشفى لآخر وشراء أثمن الأدوية رجاء شفائها وكبح جماح تلك الأمراض المتعددة، ومع ذلك أعيتهم الحيل، و لا راد لقضاء الله سبحانه فاختارها لجواره، وآخر لحظات وداعها لي وهي في حالة حرجة أن مدت يدها وهي تهم بالركوب داخل سيارة أحد الأبناء للإسراع بها إلى مستشفى دله بالرياض وهي المرحلة الأخيرة، واكتفت بالضّغط على يدي، فأتبعَتْها بنظرة نحوي ودموع عينيها ملء محاجرها !:
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي
إلا الأسى في حنايا القلب يستعرُ !
وعندما تحركت بها السيارة أخذت تدير لحظ عينيها نحو البيت الذي عاشت فيه طويلا بهناءٍ ومسّرة برفقة بنيها وبناتها حميدة أيامها ولياليها، وكأنها تُسمعني معنى هذا البيت:
سأصفيك ودي في الحياة فإن
أمت يَوَدّكَ عظم في التراب دفين
ومما لسع قلبي وأوجعه ماسمعته عنها وهي توصي أبناءها وبناتها بـي قائلةً: إن أباكم هو الذي سيفقدني..هو الذي سيفقدني، وأنتم تسلون مع أولادكم وأزواجكم، فعلمت أنها وصية مودع قبل مماتها بيوم أو يومين، فلم أتمالك نفسي في تلك اللحظة باكياً، فهي وصية وفاء وصدق:
يعز عليّ حين أُديرُ عيني
أُفتش في مكانكِ لا أراكِ !
- جمعني الله بها في دار النعيم المقيم - ولقدت سعدت ببذل أكثر من نصف مليون ريال لبناء مسجد جميل المبنى رغم قلة ذات اليد لديها، لكنها البركة من الله لها على حسن نيتها، وبعد تمامه صلت فيه ودعت المولى أن يجزل لها الأجر ولوالديها وأن يحسن لها الختام، وقد قدمت على رب كريم يحسن وفادتها بمنه وكرمه، وعندما أحضر جثمانها الطاهر إلى منزلنا وقد ألبس حلل الراحلين ليلقي عليها أبناؤها وبناتها النظرة الأخيرة والدعاء لها بالمغفرة، وقد كشف عن محياها الوضاء الذي يطفح بالبشر والنور، فتوالت قبلات أبنائها وبناتها على محياها وأنا أتابع ذاك المنظر المشحون بالحزن العميق والأسى مُودّعاً عيني من ذاك الوجه الطاهر، وعندما جاء دوري وضعت على جبينها الساطع قبلة وداعٍ أبدي احتراما وإجلالا لها:
خُذا الزَّاد يا عيني من نور وجهها
فما لكما فيه سوى اليوم منظرا !!
ولئن توارت عن نواظرنا أم محمد وأبعدت وحال بيننا وبينها باطن الأرض فقد أبقت بيننا ذكراً حسناً خالداً يظل صداهُ مُدوياً بين جوانحي مدى عمري - تغمدها الله بواسع رحمته - وعوضنا الله فيك يا أم محمد صلاح ذريتك واستقامتهم، وبهذه المناسبة القاسية على قلوبنا وعلى محبيها لا يسعني إلا أن أقدم شكري الجزيل لمن واسانا حضوريا أو غيابيا عبر الهواتف من أماكن عدة داخل المملكة وخارجها من علماء وأدباء وزملاء وأبناء زملاء، بل و أمراء كرام وأميرات فُضليات مما خفف عنا وطأة الحزن جزاهم الله عنا خيرا ولا أفجعهم على غال - تغمد الله الفقيدة بواسع مغفرته وألهم أبناءها وبناتها وذويها وشقيقيها الكريمين، وجميع أسرة آل مشعل، ومحبيها - {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}-.
زوج الفقيدة -عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف
22-11-1432هـ - حريملاء - فاكس 015260802