قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}. المتمعن في هذه الآية يتبين له أن الله - جل شأنه - لم يحدد ماهية تلك الفوائد، وجاءت كلمة (منافع) نكرة؛ حتى تشمل جميع مناشط الحياة المختلفة والمتغيرة في زمن النبوة الشريفة والأزمنة اللاحقة، وأضاف عليها - عز وجل - العبادة المحددة في الآية بذكر الله.
فالحج برغم أنه عبادة لا تكتمل أركان الإسلام إلا به فإنه في الوقت ذاته مشهد سياسي واقتصادي ونفسي واجتماعي؛ حيث يتم اللقاء بين قيادات الدول في أجواء إيمانية بعيدة عن مقتضيات الحكم وأبهته، كما يحدث الالتقاء بين جميع الأجناس البشرية من أصقاع الدنيا كافة، ويجري التقارب بينهم، وينبذون الخلافات، وبه يحصل البيع والشراء والتجارة وتبادل المصالح الاقتصادية. أما المشهد النفسي فهو ما يحصل من تدريب النفس على المشقة والسفر وفراق الأحبة والوطن، وحظر ملذات النفس وشهواتها في اللبس والتطيب، وعدم المجادلة والانتصار للذات، يُضاف عليها تحمُّل محدودية الزمان وتواضع المكان والمأوى.
وعلاوة على ذلك فالحج مؤتمر اجتماعي تربوي فريد من نوعه؛ لأنه يربي في نفوس الناس المعاني والمثل الاجتماعية التربوية السامية لمن يوفَّق لذلك؛ ففيه يتجسد معنى التعاون بين الحجاج ورحمة القوي الضعيف، والكبير الصغير، وحنو الغني على الفقير وجوده عليه، والتجرد الكامل من مظاهر الفوارق الطبقية الدنيوية؛ فالكل في صعيد واحد، متجهون نحو خالق واحد، يتوسلون له بكل أساليب الذل والفقر والحاجة، وقد خلعوا الجاه والأوسمة والمناصب. وهنا يحصل ذوبان للفوارق بينهم ولو لفترة قصيرة؛ فحين تجتمع الحشود الهائلة من مختلف الطبقات والأجناس، وتزدحم بهم المعابر، وتغص بهم الأماكن العامة، يحرصون على تحمل بعضهم دون خصام أو ضجر تعظيماً لهذه العبادة. بعدها يعود المسلم الحقيقي وقد هذبه الحج، واستفاد من دروسه العِبَر والتوجيهات التربوية الفريدة. فضلاً عما يكسبه الحاج من توفيق لدعاء، أو إرشاد لضال، أو تعليم لجاهل، أو إغاثة لملهوف، أو إعانة لضعيف، أو إطعام لجائع.
والعجيب في أمر الحج أنه لم يفرض كتاباً كالصلاة والصوم، بل قُرن بالاستطاعة، وبرغم ذلك تجتمع كل عام ملايين متجددة من الأمم في هذا المكان المحدود تعظيماً لشعيرة الله، وقد بذلوا المال وتحملوا الصعاب من أجل أن يرضى الله عنهم، ويكافئهم بغفران الذنوب فيعودون كما ولدتهم أمهاتهم إذا أخلصوا والتزموا بتعاليمه وتجنبوا نواهيه مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
نرجو الله أن ييسر أمر الحجاج، ويعين الحكومة على خدمتهم، تلك الخدمة التي تليق بهم وتشرفنا أمام ربنا، وتبقي قامة مليكنا كما هي، دائماً مرفوعة بفخره بخدمة الحرمين الشريفين.
rogaia143@hotmail.comwww.rogaia.net