تولي الدولةُ -رعاها الله- ظاهرةَ انحراف الحدث اهتماماً خاصاً ومحمُوداً، وهي تفعلُ هذا بوحيٍ من رغبتها في تجْنيب هذا الجيل فتنةَ التناقض الثَّقافي والحضَاري وإفرازاتِه. وتشيرُ الدلائلُ الراهنةُ إلى أنَّ حجمَ الظاهرة يسيُر باتّجاه التصعيد لعدّة أسباب أهمُّها وأبرزُها تعاظمُ حَجْم الشريحة الشابة في تركيبتنا السكانية، وهذه الحقيقةُ وحدها تقرعُ الأجْراسَ بصوتٍ عالٍ لما يترتَّبُ عليها من سلبيات تأَثُّراً بمخاطر (التلوّث الثقافي) الذي تغذّيه سلعُ وهواياتُ الكيْف المستَورد، ناهيك بما تنْفُثُه بعضُ قَنَوات البثَّ الفضَائي، وتلك الأمورُ مجتَمعةً لا سبيلَ لنا إلى إغْفالِها أو التنكُّر لها بأيَّ حال، كما أنَّ مسئُوليتَنا إزاء جيل الأحداث مسئُوليةٌ جماعية، لا تخْتصُّ بها جِهَةٌ ولا أفرادٌ، ولها من الثَّقل ما يوازي حبَّنا لهذا الجيل، واهتمامَنا به وخَشْيتَنا عليه من عَثَراتِ عالم اليوم!
والحديثُ عن ظاهرة انحرافِ الحَدَث يسوقُ الذهنَ إلى التأمُّل في عِدّة مسَاراتٍ أُوجزُها في التالي:
أولاً: إذا كانت حصيلةُ بلادنا من التحوّل الحضاري والثقافي والصناعي تَزْدادُ بمقيَاسِ الساعة لا اليوم، فإنَّ من المحْتَمل أنْ تَتَّخِذَ ظاهرةُ (انحراف الحدث) أبعاداً أوسعَ وأبرزَ حجْماً وكَيْفاً، ومعنى ذلك أنَّ الأجهزةَ المعنيةَ بموضوع الحدث لابدّ لها من مضَاعفة الجهُودِ لاحْتِواء الظَّاهرةِ وتخْفيفِ آثَارِها. ويشتركُ في ذلك مؤسسَّاتُ المجتمع، بدْءاً من البيت، مرُوراً بالمدرسة والمسجد والنادي، وما يُمكن أنْ يُقَاسَ على ذلك. ومعنى هذا محاولةُ استنْفار كَفَاءاتٍ شَابّةٍ مؤهّلةٍ بثقافاتٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ تستطيعُ متابعةَ تطوُّراتِ الظاهرة أولاً بأول، وعقدَ البحُوثِ واللقاءاتِ الميدانية، مع الأُسَر صَاحبة الشأن، ومن ثَمَّ تكوينُ رُؤْيةٍ إنسانيةٍ مكثَّفة للظاهرة في حجْمِها الميداني، ويُفَضَّل أن تكونَ الكفَاءاتُ المتخصَّصةُ من العناصر الوطنية ذكُوراً وإنَاثاً، لأحَاطتِها بالخلفيةِ الدينيةِ والنفسيةِ والثقافيةِ التي تغَلَّفُ حياةَ الحَدَثِ في بلادنا.
ثانياً: هناك مَنْ يؤّيد أسلوبَ القَمْع الحسَّي، كمدخل لردْع ظاهرة انحراف الحدث، ويتبنَّى هذا المدخلُ أحياناً وسيلةَ الملاحقة الميدانية للحَدَث، وتعزيرَه نفْسياً وجسَدياً باسم الإصلاح، وأعتقدُ أنَّ لهذا المدخل محاذيرَ كثيرةً، وضرُره أكبرُ من نفْعه، خاصةً عندما تقومُ الملاحقةُ على فرضيّة الشُّبْهة التي لا يدعمُها دليلٌ. أقولُ هذا بالرغم من تقديري للقَصْد المكيَّف لأسلوب الملاحقة، لكن إذا كانت الغايةُ لا تبرَّرُ الوسيلةَ في أكثر الأحوال، فإنَّ الخوفَ من مثل هذا الموقف أرْجحُ، والحَذَرَ منه ألزمُ!
ثالثاً: يتفق الكثيرون من المهتمين بالظاهرة على أنّ أنْجَعَ وسيلةٍ لتطويقها تجنيبُ الحدث الأسبابَ والظروفَ التي تزيّنُ له الانحراف وتُغْريه به وتدعُوه إليه، وأوَّلُ هذه الأسباب توفيرُ بديلٍ للشارع يحتضنُ قدراتِ الحَدَث ويصونُ حريتَه وحياتَه، ويطلقُ طَاقاتِه. أعنى بذلك تهيئةَ مرافقَ ملائمةٍ، كسَاحات المدارس مثلاً يمارسُ الحَدَثُ بين جدرانها هواياتٍ وميُولاً، يُفتَرضُ أنَّ إشباعَها في هذه المرحلة الحَرجة من العُمر أمرٌ مكمَّلٌ لنمُوَّه وضرورةٌ قُصْوىَ لبنَاء شخصيتِه.
اللعبُ، مثَلاً ميلٌ فطريُّ وضرورةٌ أخلاقيّة للحَدَث، في كل مكان وزمان، يتعلمُ من خِلاَله الكثيرَ عن نفسه وعن العالم المحيط به أكْثَرَ ممّا يتَعلّمُ عن طريق التلقين الموجَّه أو المبَاشِر، وأحسبُ أنَّ إنكارَ هذا التوجُّهِ الفطري للطفل من قِبَلنِاَ نحن الكبارَ يشكَّلُ قَدْراً من (الانحراف التربوي) الذي لا نُحمَدُ عليه!
ويذكرُنا المتخصَّصون في التربية أنَّ هذا الميلَ الفطريَّ يحتاجُ إلى وسيلةٍ للتعبيرِ عنه والإشباعِ له، فإذا تعذَّر وجودُها، أداةً ومكاناً، لم يبقَ أمامَ الحَدَث سوى الشارع يقْهَرُ به فتنةَ الحِرْمَان، لكنَّ الشَّارعَ لا يخلُو من مزالقَ وفتنٍ تعَّرضُ الحدَثَ لمحاذيرَ يخشَاها هو ونَخْشَاها نحنُ من أجله، بدْءاً بالسيارة، وانتهاءً برفاقِ السُّوء و»سماسرة» العقُول وطفيليّات الحيَّ وسَوْءاته!