كان الأمس يوم عيد الحج أعاده الله على أمتنا، عرباً ومسلمين، أعواماً عديدة وقد تحقق لها ما ترجوه من رسوخ أمن واستقرار وتقدُّم في مختلف مجالات الحياة، وتقبل من الجميع، وعلى رأسهم حجاج بيته الكريم، أعمالهم الصالحة.

أما بعد:

ففي مقالتي، الأسبوع الماضي، قلت: إن رحيل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز.. ركن الدولة السعودية الحديثة المسدد وفارس الأريحية الأسمى.. كان خطباً جللاً ترك في النفوس ألماً عميقاً وحزناً كبيراً. وكان مما قلته: إنه -رحمه الله رحمة واسعة- سعيد الحظ؛ ذلك أن الله وهبه من الصفات ما ملّكه قلوب الناس، داخل وطنه وخارجه، وجعل الجميع يجمعون على تعداد مآثره الخيِّرة ويدعون الله أن يجزيه الجزاء الأوفى على ما قدمه لوطنه وأمته، ويسكنه فسيح جناته. ومما أشرت إليه في مجال ذكر شيء من تلك المآثر التي يصعب أن تعد أو تحصى، سعادة مؤسسة الملك فيصل الخيرية، ممثلة في جائزة الملك فيصل العالمية، بأن اختارت لجنة الاختيار في الجائزة مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية فائزة بجائزة خدمة الإسلام عام 1423هـ/ 2003م؛ وذلك لتمكنها من إنجاز الكثير من البرامج والمشروعات الخيرية الإنسانية، التي انتفع بها الكثيرون من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها.

وكان مما قلته، إشارة إلى كون الأمير سلطان -رحمه الله- ركن دولة: كان من صفات الملك عبدالعزيز، مُوحّد هذا الوطن وواضع أسس نهضته الحديثة، عبقريته الفذة، التي منها فراسته العظيمة في معرفة الرجال، ومن ذلك أنه أدرك مواهب ابنه الأمير سلطان المتألقة؛ فكان أن اختاره أميراً للرياض، وهو في مطلع عقده الثالث من العمر. ثم لما عُهد إلى الأمير سلطان بعمل آخر أحل ابنه الموهوب، الأمير نايف بن عبدالعزيز، محل ابنه الكفؤ سلطان في إمارة الرياض. وها هو ذا خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، أمدّ الله في عمره، وزاده توفيقاً وسداداً، يختار الأمير نايفاً، فيعيِّنه محل أخيه سلطان -رحمه الله- ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء. وكما بقي الأمير الراحل سلطان -مع كونه ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء- وزيراً للدفاع، ذوداً عن حياض الوطن، بقي الأمير نايف -مع كونه ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء- وزيراً للداخلية المنوط بها حفظ أمن هذا الوطن وكل ما يتعلق بأمنه واستقراره.

ومما قلته في مقالة الأسبوع الماضي: إني أرجو أن أتمكن من الإشارة إلى شيء من إضفاء نبل سمو الأمير الراحل -سلطان بن عبدالعزيز- في علاقته معي ومع أسرتي، لا سيما مع أخي الشيخ محمد -رحمه الله- وأبنائه.

لقد بدأت صلتي بالأمير الراحل بعد عودتي من بريطانيا، منهياً دراستي العليا هناك، قبل أربعين عاماً. ومن تلك الصلة تكرُّمه بدعوتي مع آخرين من أساتذة الجامعات في وطننا العزيز، والمثقفين، في عديد من المرات لنكون في صحبته خلال زياراته للجهات العسكرية في مناطق المملكة كي نطلع على إنجازات الوطن في قطاعات الجيش المختلفة، تدريباً وتسليحاً، ونحمد الله على ما تم من تلك الإنجازات. وكان في الجولات، التي تتم في تلك الزيارات، يشعر كل فرد منا بأنه معتنى به ومحتفى. والاعتناء والاحتفاء بكل فرد ممن يسعدهم الحظ بصحبته، أو الجلوس معه، سمتان معروفتان من أخلاقه النبيلة. وما دامت الإشارة هنا، ذات صلة بالأمور العسكرية فإن من المستحسن الإشارة إلى تكرُّمه عليّ، وإحسانه الظن بي، وذلك بتشجيعه لي على إنجاز كتابي (معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد البلاد) الذي صدرت الطبعة الثالثة منه عام 1419هـ/ 1998م.

وكان مما أكرمني به الأمير الراحل -أسكنه فسيح جناته- أن جعلني ضمن فريق استشاري من الإخوة الزملاء في مكتبه سنوات يحيل إليهم ما يحيل من أمور تتعلق بقضايا الوطن العامة لدراستها وإبداء الرأي حولها. وكان من حسن ظنه بي، ووافر إكرامه الذي أضفى عليّ رداءه، أنه اتصل بي شخصياً ليبلغني أن قيادة وطننا العزيز، وهو ركن أساسي من أركانها، قد اختارتني ضمن أعضاء مجلس الشورى في منتصف دورته الثانية، حيث بقيت فيه ثلاث دورات. وكان من سعادتي الغامرة التي زادت من أواصر صلتي بسموه الكريم أن أصبحت -منذ عام 1407هـ/ 1987م- أميناً عاماً لجائزة الملك فيصل العالمية، التي كان سموه يرأس فيها لجنة الاختيار في فرع خدمة الإسلام بصفته رئيس الدعوة الإسلامية في المملكة، كما كان يرعى -في أغلب المرات- حفل منح الفائزين بالجائزة، نائباً عن خادم الحرمين الشريفين.

وأما صلة الأمير الراحل بأخي الشيخ محمد -رحمه الله- فصلة وطيدة راسخة الجذور. وكان بينهما مكاتبات ومهاتفات ولقاءات كثيرة في مدن متعددة من المملكة. لكن أبرز تلك اللقاءات كانت تلك التي تتم، خلال زيارات سموه السنوية لمنطقة القصيم، في منزل الشيخ بعنيزة. وكان لتشريفه ذلك المنزل الأثر المبهج في نفس الشيخ وأسرته، كباراً وصغاراً؛ إذ يفرح الجميع فرحاً عظيماً بذلك التشريف المقرون دائماً ببشاشة سموه وابتسامته المعهودتين. بل إن لطفه النبيل امتد رداؤه. وكان من ذلك أنه تكرّم بزيارة أبناء الشيخ في منزله في السنة التي تلت وفاته، وهي سنة 1422هـ. وكان لتلك الزيارة أعمق الأثر المبهج في نفوس أسرة الشيخ، فرداً فرداً، وفي نفوس طلبة العلم، ثم دأب على أن يخصص وقتاً يجتمع به فيه أبناء الشيخ وحدهم في مستقره بالقصيم. ولما نشأت مؤسسة الشيخ محمد الخيرية، واطلع على أهدافها وما ترجو أن تحققه تفضل بالتوجيه بتقديم دعم سنوي لها طوال الأعوام الماضية لإنجاز تلك الأهداف، وبخاصة ما يتعلّق بتوثيق نتاج الشيخ العلمي ونشره.

رحم الله الأمير الجليل سلطان بن عبدالعزيز، ركن الدولة السعودية الحديثة وفارس الأريحية الأسمى، وأسكنه فسيح جناته.